الإيقاع الشعري بين التماثل والتنوع

ثلاثاء, 11/21/2017 - 09:33

الإيقاع الشعري بين التماثل والتنوع
ببهاء ولد بديوه
شاعر وباحث

لا اختلاف في الحقيقة القائلة: إن الشعر جوهره الإيقاع، ولكن تحديد ما هو الإيقاع الشعري أمر يصعب أن نصل فيه إلى شاطئ لا تزعزعه رياح الاختلاف. فإذا كان من السهل تحديد طبيعة النموذج العام للإيقاع المتمثل في الأوزان والقوافي، فإن من الصعوبة بمكان أن نلم إلماما شاملا بتلك التنويعات الإيقاعية الفردية التي يحاول هذا المقال أن يتصيد بعضا من خصائصها حينما تندمج في النموذج العام للإيقاع لتغنيه وتثريه.

لهذا السبب، ربما يكون القدماء، قد اتخذوا النموذج العام للإيقاع منطلقا لتحديد ماهية الشعر؛ فعرفه قدامة بن جعفر بأنه "كلام موزون مقفى"[1]، وهو التعريف الذي شاع وانتشر وصادف في النفوس هوى، فانطبع في عقول وأذهان الكثيرين من المتلقين للشعر أن كل موزون مقفى شعر وأن وأن غيرهما من الكلام ليس بشعر. وما الجدل الذي مازال دخانه ساطعا حول أحقية الشعر الحر في أن يكون شعرا إلا نتيجة لما ترسب في العقول من فهم هذا التعريف، فما زال الكثيرون يرفعونه عصا أمام كل تجديد في القالب العروضي للشعر.

وليس من موضوع هذا المقال أن يتوغل في الساحة الوعثاء لذلك الجدل، ولكننا مع ذلك لا يمكن أن نغفل الإشارة إلى ما وقع لهذه العبارة من سوء فهم، حتى أصبحت حقيقة الشعر تختزل أحيانا في خاصيتي الوزن والتقفية. مع أن المقصود منهما في هذا التعريف لم يكن- فيما أعتقد- أكثر من إعطاء تعريف للشعر بأبرز خصائصه، وليس بكل خصائصه على طريقة التعريف الحدي.

إن ما أراده قدامة من هذه العبارة: هو أن هاتين الخاصيتين من أبرز ما يميز الشعر عن غيره من فنون القول الأخرى؛ إذ من البدهي أن الشعر لا يكمن فقط، في الوزن والقافية، لا عند القدماء ولا عند المحدثين.

وهذا ما تدل عليه عبارة حسان بن ثابت عندما جاءه ابنه عبد الرحمن يبكي- وهو إذ ذاك صبي- ويقول « لسعني طائر » فقال: حسان "صفه لي" قال: "كأنه ملتف في بردي حبرة"... فقال حسان": "قال ابني الشعر ورب الكعبة ». إذ ليس في هذا الكلام وزن ولاقافية ولا إيقاع، وإنما فيه هذا التشبيه الذي يكشف عما يربط ويجمع بين أشياء متفرقة.

ويعلق الجرجاني على هذا بقوله: « أفلا تراه جعل هذا التشبيه مما يستدل به على مقدار قوة الطبع ويجعل عيارا في الفرق بين الذهن المستعد للشعر وغير المستعد له"[2].

والحق أن الشعر إنما يكمن هنا؛ في قوة إدراك المحسوسات وفي قوة التعبير عنها، فيما تتمايز وما تتشابه فيه. وما الوزن نفسه إلا ثمرة لقوة إدراك الخصائص الإيقاعية للأصوات اللغوية والتي- من خلال التأليف بينها تأليفا متناسبا وفق ما تقتضيه "السمات الفارقة"[3] التي تميز النظام الصوتي للغة ما- يتولد الوزن.

ومن المعروف أن النموذج العام للإيقاع في كل شعر مؤلف في الغالب من عنصرين: أحدهما خفي لا يتجلى إلا لمن لهم حساسية شاعرية أو نتيجة تعليم وتدريب، وثانيهما ملحوظ يدركه كل سامع، فإذا كانت القافية، على سبيل المثال مما لا يفوت على ملاحظة أي سامع، فإن الوزن قل من يدركه إدراكا دقيقا. ومن هنا دخل الخلط على الناس فيما يتعلق بالشعر الجديد الذي هو في الأساس قائم على الوزن، وليس على القافية.

ومن المعروف أن أهم ما يميز الشعر هو اللغة التخييلية القائمة على التشبيه والمحاز اللغوي اللذين هما جناحا الخيال الشعري، أو هما ذهب الكلام وفضته اللذان منهما تصاغ أجمل وأبهى العناصر الجمالية في الشعر، إذا أردنا أن نستعير لغة الجرجاني[4] كما أنهما أكثرها على الاستعمال بقاءً وأكثرها ثراء وتنوعا، أما الألوان البلاغية فإنها من جوهر دون هذين الجوهرين.

وكما لا يدرك كل الناس ماهية الوزن التي تكمن في التأليف المتناسب بين عناصر صوتية في نظام معين يظهر تمايزاتها وتشابهاتها، كذلك لا يدرك كل الناس بجلاء حقيقة المحسوسات وما يكون بينها من تمايز وتشابه. فالشعر إذن يكمن في الإفصاح عن الأشياء المدركة إفصاحا يظهر تمايزاتها وتشابهاتها وتناسباتها. وتلك هي وظيفة اللغة الأولى والجوهرية.

فاللغة قائمة في مستواها الصوتي- الصرفي على أساس إيقاعي حيث تصنف الوحدات. اللغوية وفق ما تتشابه فيه وما تتفرق شكليا، ومن ناحية دلالية تقوم اللغة بتصنيف المدلولات حسب تقاربها وتمايزها دلاليا. والشاعر إنما ينطلق من هذه الألوان والحقول الشكلية والدلالية ليبني منها معماره الشعري. فالعمل الشعري يبدأ من حيث انتهى عمل اللغة، بل يمكن القول: إن اللغة لاتصل إلى أوج حقيقتها إلا في الشعر.

فإذا كانت اللغة، وهي وسيلة الإنسان لوعي وجوده- إذ لا يعي الإنسان من وجوده إلا ما تصل إليه لغته- تنظم الوجود حسب تمايز الموجودات وتشابهاتها في تصنيف دلالي يُسَهِّلُ على الإنسان أن يعي وجوده بشكل أفضل، فإنها من الناحية الصوتية والصرفية والتركيبية تقوم بتنسيق ذاتها وفق ما تتمايز فيه وما تتشابه صوتيا وصرفيا وتركيبيا، الأمر الذي يقوم على أساسه ما نلحظه من إيقاع الكلام العادي. وما الإيقاع الشعري إلا تنظيم أشمل وأمثل لإيقاع الكلام العادي[5] وما المضمون الشعري إلا تنظيم في المستوى الدلالي للغة يشبه أن يكون تأليفا إيقاعيا للمدلولات يظهر حقائق الوجود بشكل أكثر سطوعا. ومن هنا يمكن القول إن اللغة هي نفسها الشعر بالمعنى الجوهري.

ومن الجلي أن هناك ترابطا بين القدرة على استجلاء المحسوسات وبين القدرة على التأليف بينها تأليفا متناسبا؛ فالقدرة على استجلائها فيما تتشابه فيه وما تتمايز ينتج عنه بالضرورة القدرة على التأليف بينها تأليفا متناسبا. كما أن التأليف المتناسب بين الأشياء يبرز للعيان حقائقها المتخفية. ومع أن كثيرا من تلك الحقائق التي يبرزها الشعر قد لا يكون غائبا عن إحساس معظم الناس، فإننا نشعر عند ما يبرزها الشعر لأول مرة، كما لو أن ضوءًا ساطعا سلط على ما كنا نمس به، ولكننا لم نكن نستطيع أن نخرجه من ظلام الحس إلى مستوى التعبير.

وقد لا يكون الفرق بين الشعراء وغير الشعراء كامنا في القدرة على إدراك المحسوسات قدر ما هو كامن في أن الشعراء أكثر اتصالا بينابيع اللغة، ومن ثم أكثر قدرة على التعبير عن أحاسيسهم التي هي في الأخير أحاسيس الجميع.

وإذا كان الشعر يكمن في قوة إدراك المحسوسات وفي قوة التعبير عنها فيما تتمايز وما تتشابه فيه، فمعنى ذلك أن الكشف الجمالي المتجدد من خصائصه الجوهرية؛ أي أنه لا التلوينات الإيقاعية ولا التأليفات الجمالية للمدلولات يمكن أن يتوقف الكشف فيها عند تخوم ثابتة. إذ لو توقف الكشف لم يكن هناك غير الابتذال؛ ومن هنا فإن الاستعارة التي كانت رائعة تصبح بكثرة الاستعمال مبتذلة فاقدة الرونق، كما يصبح الوزن الذي كان في أول ظهوره إيقاعا شعريا مجرد نظم، وذلك لأنه لم يعد فيه من عنصر إيقاعي جديد. كما أن المحسنات البديعية تفقد طراوتها بكثرة استخدامها؛ فيتحول ما كان لها من ملاحة إلى سماجة؛ فكثرة استخدام الشيء تفقده طاقته التعبيرية الشعرية. ومن هنا فإن الشعرية تكمن فيما تضيفه وتكتشفه لا فيما تردده وتكرره؛ ولكن وفق تلك المعايير الجمالية التي يحددها التقليد الفني وتؤثر فيها البيئة ونمو الثقافة. ومعنى هذا أن الشعر لا يكمن فقط في التألبفات المتناسبة بين الأشياء التي ترينا حقائقها المتخفية، وحقائق ما تعبر عنه من مدركات وأحاسيس، وإنما يكمن أيضا في التأليفات المتناسبة بين ما هو قديم وما هو جديد، بين ما هو محضور وما هو مذكور، بين المألوف وغير المألوف؛ فهو باختصار: الائتلاف في الاختلاف؛ ولهذا نصف كثيرا من القصائد بأنها ليست شعرا إذا كانت خِلْوًا من تأليفات جمالية جديدة تضفي على الوجود المبتذل صبغة من الرونق، كما نصف جميع المؤلفات التعليمية التي كتبت في قوالب عروضية بأنها نظم وليست شعرا؛ وذلك لأن الإيقاع فيها فقير مستهلك.

ولهذا فإن شعرية الإيقاع الذي هو من أكثر خصائص الشعر وضوحا لا تكمن فقط في الأوزان والقوافي فالأوزان والقوافي إنما تشكل النموذج العام للإيقاع، وإنما فيما يندمج فيه ويتلاحم معه من تلك التنويعات الإيقاعية الفردية؛ فمن هذا الاندماج ومن ذاك التلاحم تتجلى روح الإيقاع الشعري، وفي تلك التنويعات يكمن تجدده، وفي التأليف ما بين ثابته ومتجدده يكمن جوهر شاعريته.

وعبقرية البحور الشعرية إنما تتمثل في مدى تقبلها للتنويعات الإيقاعية الفردية بحيث تصبح مثل الكلام؛ أي أن علاقة الوزن بالإيقاع الشعري مثل علاقة اللغة بالكلام؛ فنحن نتفق جميعا في قواعد اللغة التي نستعملها وفي معجمها، ولكننا في الكلام نختلف اختلافا لا سبيل إلى وصفه أو حصره؛ فإذا كانت الكلمات والقواعد محدودة، فإن الكلام في تحققه يأتي في صور لا تنفد من التأليفات، كذلك البحور لها بنية إيقاعية تجريدية ثابتة يتفق فيها الجميع، ولكنها بما يندمج فيها ويتلاحم معها من تلك التنويعات الايقاعية الفردية تأتي في صور إيقاعية لا نهاية لها، بحيث يبدو كما لو أن في كل بحر بحرا خاصا بكل شاعر. بل إن هذه التنويعات تتيح للشاعر أن تأتي قصائده التي هي من بحر واحد في صور إيقاعية متباينة. فكل قصيدة هي، في الواقع، تحقق جديد للبحر يختلف عن جميع التحققات السابقة.

وعلى هذا فإن الايقاع الشعري ليس هو مجرد المواءمة بين الكلمات وبين المتتاليات الإيقاعية (التفاعيل) التي منها يتألف الوزن، فمجيء الكلام في إطار الوزن وفق ما تقتضيه قواعد اللغة لا يصنع وحده الشعر كما لا ينتج عنه إلا إيقاع فقير مبتذل، إذ لا يعدو الوزن أن يكون -كما قلنا- «مجرد مكون من المكونات التي تؤسس مجتمعة البنية الإيقاعية»[6] وإن كان هذا المكون يقوم بالدور الأساسي المنظم للإيقاع، ومن ثم فإن الشاعر يلجأ إلى اللعب بالكلمات لعبا إيقاعيا؛ وذلك بوضعها وفق "ضروب التناسبات المختلف" كما يقول حازم القرطاجني[7] أو التوازي كما يسميه جاكبسون والذي هو "نسق من التناسبات على مستويات متعددة؛ في مستوى تنظيم وترتيب البنى التركيبية وفي مستوى تنظيم وترتيب الأشكال والمقولات النحوية، وفي مستوى تنظيم وترتيب الترادفات المعجمية، وتطابقات المعجم التامة، وفي الأخير في مستوى تنظيم وترتيب تأليفات الأصوات والهياكل التطريزية"[8] والكلمات لمثل هذه الأغراض ذات طبيعة "مرنة وإن معانيها قد تتضاعف بتكييف أشكالها وحركاتها في الأذن"[9] . أو كما يقول (بوب) فإنه في الشعر "ينبغي أن يكون الصوت صدى للمعنى..[أو] أن يكون الصوت هو المعنى نفسه"[10] وهذا ما عبر عنه قدامى نقاد العرب «بائتلاف اللفظ والمعنى»[11] أي "أنّا نرى مباشرة العلاقة بين الشكل الخارجي والدلالة»[12] ولا «تخرج عن هذا الباب مظاهر المطابقة النحوية والصرفية أو تلك التي ترجع إلى المرتبة»[13].

ولنأخذ على سبيل المثال ما يتعلق بالجانب الشكلي للكلمات حيث إن وضعها وضعا متناسبا يلعب دورا جوهريا في الإيقاع؛ والتناسب (أو التوازي) في الكلمات هو «أن تتماثل أوزان الكلمات أو تتوازن مقاطعها»[14].

وهذا التماثل أو هذا التناسب يأتي في الشعر على ضروب شتى يمكن الاكتفاء بإيراد بعض الأمثلة منها للاستجلاء وليس للاستقصاء؛ فمنها:

1- أن تتتالى الكلمات على صيغة واحدة مثل قول أمرئي القيس:

سبوح جموح وإحضارها كمعمجة السعف الموقد

وقوله:

مكر مفر مقبل مدبر مع,,,,كجلمود صخر حطه السيل من عل

وقول تميم بن مقبل:

قتيل شهيد مؤمن شقيت به......نفوس أعاديه سعيد مطيب

2- ويمكن لهذه التماثلات والتوازنات أن تأتي بشكل متقابل، ويأتي هذا التماثل المتقابل.

أ) إما بسيطا بهذا الشكل (أ ب أ ب) مثل قول كعب بن زهير:

هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة....لا يشتكي قصر منها ولا طول

وكقول ذي الرمة:

كحلاء في يرج صفراء في نعج....كأنها فضة قد مسها ذهب

وكقول المتنبي:

فنحن في جذل والروم في وجل...والبحر في خجل والبر في شعل

وقول شوقي:

فما راعنى إلا نساء لقينني....يبالغن في رجزي ويسرفن في نهري

ب- وإما مركبا؛ ويأتي بهذا الترتيب (أب ج أب ج) كقول شوقي:

على جوانبها حفت تمائمنا....وحول حافاتها قامت سواقينا
ملاعب مرحت فيها مآربنا....وأربع أنست فيها آمانينا
ومطلع لسعود من أواخرنا.......ومغرب لجدود من أوالينا

جـ- ويمكن أن يأتي متداخلا بهذا الترتيب (أ ب ج أ ج ب) مثلاً؛ كقول المتنبي:

فالعرب منه مع الكدري طائرة.....والروم طائرة منه مع الحجل

وخلاصة القول: أن التماثلات التي تأتي عليها الكلمات في أشكالها الصرفية أو المقطعية ذات صور كثيرة منها ما ذكر. ومن المؤكد أنه يستحيل حصرها أو حتى الإلمام بها. وقد تكون لها صور أشد تعقيدا وأكثر تخفيا على الملاحظة. ويمكن أن تكون موضوعات لدراسات أسلوبية عند هذا الشاعر أو ذلك.فمثل هذه الدراسات يمكن أن تفيدنا في فهم "خواص اللغة الشعرية ومن أهمها الترداد والتشاكل"[15].

ويبدو المتنبي من بين الشعراء القدماء شديد الاعتناء بمثل هذا النوع من التقابلات ما بين الكلمات التي تتماثل صرفيا أو مقطعيا. وليس من السهل تتبع ذلك هنا، وإنما نشير إلى بعض مطالع قصائده التي تقوم على هذا النوع من المتقابلات المتماثلة شكليا.

فمن ذلك قوله:

- فراق ومن فارقت غير مذمم....وأم ومن يممت خير ميمم
- بغيرك راعيا عبث الذئاب.....وغيرك صارما ثلم الضراب
- لعينيك ما يلقى الفؤاد وما لقى....وللحب ما لم يبق مني وما بقي
- أغالب فيك الشوق والشوق أغــلب.....وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب
- ألا كل ماشية الخيزلي ......فدى كل ماشية الهيذبى
- على قدر أهل العزم تأتي العزائم,,,,وتأتي على قدر الكريم المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها......وتعظم في عين العظيم العظائم

وإذا كانت هذه التماثلاث تمثل مظهرا من جماليات الإيقاع، فإن كسرها يمثل الوجه الآخر لجماليات الإيقاع. بل يمكن القول إن هذه التماثلات والتشاكلات لا تبلغ كمال جمالها إلا بكسرها.

وهكذا تقوم جماليات الإيقاع في الشعر العربي على التماثل والتشاكل ثم كسر هذا التشاكل أو هذا التماثل ثم بنائهما من جديد، وكل من هذه التماثلات والتشاكلات وكسرهما يلعب دورا مهما في اغناء بعضها بعضا وفي تجليته إذ إن "الوحدات المتكررة (...) تصبح على أرضية التنوعات الدائمة أكثر وضوحا بشكل لا يقارن »[16] وكذلك العكس.

وهكذا يمكن أن "تعارض الوحدات المؤلفة من الأزواج بتلك التي لا تنتظم بالفعل في أي زوج والتي تثير بفضل توحدها (...) وتميزها عن بقية الأزواج[17].

وقد لوحظ أن هذه الظاهرة ظاهرة بناء الأنساق المتشاكلة وكسرها تمثل "خصائص أصيلة في بنية الفكر الإنساني"[18] إلا أن هذا التماثل لا يعني التطابق؛ فلا بد أن يكون لكل ثقافة ولكل لغة خصائصها التي تنفرد بها.

وفي اللغة العربية يتم بناء الأنساق المتشاكلة وكسرها في جميع المستويات في النص الشعري من المستوى الصوتي الصرفي إلى مستوى التركيب والأسلوب. فهل يكون لذلك علاقة بما هو معروف في العربية من كراهية توالي الأمثال؟ هل هناك علاقة بين جماليات تركيب الاصوات والمزج بينها في الكلمة وبين جماليات تركيب الكلمات والمزج بينها في الجمل، ثم بين جماليات التركيب ما بين الجمل والأساليب في مستوى النص؟ هل ما هو موجود من درجات الحسن في المزج بين الأصوات والذي أشبعه بحثا علماء اللغة قديما، والذي يرتكز في الأساس على جوانب فسيولوجية وعصبية ذو علاقة بما هو ملحوظ من درجات الحسن في المزج بين العناصر اللغوية الأخرى.

إن مما يثير هذه التساؤلات ما هو ملحوظ من أنه إذا كان المستوى الصوتي في اللغة العربية لا يمكن أن يتوالى في الكلمة الواحدة فيه أكثر من حرفين متماثلين ولا يمكن أن يصل ذلك إلى ثلاثة حروف؛ مثل جلل، وددن، فإننا نلحظ أن من جماليات التكرار بالنسبة للكلمة الواحدة في النص الأدبي أنها قلما تتكرر أكثر من مرتين: ومثال ذلك قول البحتري:

وكأن الزمان أصبح محمو لا هواه مع الأخس الأخس

وقول المعري:

واللبيب اللبيب من ليس يغترْ....رُ بكون مصيره للنفاد

وأن الجناس يأتي كثيرا على شكل ثنائيات لفظية تتماثل تماثلا تاما أو جزئيا؛ فالتماثل التام مثاله الآية الكريمة: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون مالبثوا غير ساعة}.

وقول المتنبي:

لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان

ومثال التماثل الجزئي قول المتنبي أيضا :

فلله وقت ذوب الغش ناره فلم يبق إلا صارم أو ضبارم

وأما التماثل الصرفي بين الكلمات الذي مر بنا آنفا بعض من نماذجه، فهو يأتي كثيرا بشكل ثنائي، والمثال الأجلى على ذلك هو صفات الله في القرآن الكريم، فهذه الصفات تأتي في القالب على صورة ثنائيات تتماثل صرفيا؛ مثل {وكان الله عليما حكيما}، {وكان غنيا حميدا} و {وكان الله سميعا بصيرا} {وكان عليما حليما {وإن الله لعفو غفور} {وهو اللطيف الخبير} {وأن الله هو العلي الكبير} {وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد} إلخ... أليس مجيء هذه الصفات على هذا الاسلوب في شكل ثنائيات تتماثل صرفيا، شبيها بتكرار الحرف المضعف في الكلمة الواحدة من الثلاثي؟

وما رأيناه من قبل من تقابل بين الكلمات المتماثلة صرفيا مثل قول الخنساء:

حمال ألوية هباط أودية شهاد أندية للجيش جرار

والذي هو من أكثر الاساليب اطرادا في الشعر القديم ألا يشاكل بناء الرباعي المضعف مثل خلخل وزعزع...إلخ؟

إلا أن تمادي الكلام على هذا التماثل يظل غير مستساغ، بل يصبح ممجوجا ومبتذلا. ومن ثم فإن جمال تلك التماثلات لا يكمن في استمرارها قدر ما هو كامن في كسرها وبناء تماثلات أخرى ثم كسرها... وهكذا دواليك.

وقريب من هذا المنحى تسير الجمل، وإن كان توالى المتماثلات من الجمل أكثر قبولا من توالي المتماثلات من الكلمات كما أن تواليها من الكلمات أكثر قبولا من تواليها من الاصوات، وذلك لأن المكونات التي منها تتألف الجمل والكلمات أكثر مما يضفي عليها مع وجود التماثل تنوعا لا يكون للاصوات والمقاطع التي هي بسيطة في تكوينها.

ففي الجمل لا يستحسن أن تتوالى سلسلة طويلة من الجمل الفعلية أو الاسمية كما أنه يتم التعاقب بين الضمائر المختلفة من المتكلم إلى المخاطب إلى الغائب، كما يتم الانتقال من أسلوب الإنشاء إلى أسلوب الخبر؛ وذلك "لأن الترامي بالكلام إلى أنحاء شتى في جهة جهة وتركيب تركيب وصيغة صيغة وضرب بعضه ببعض على الهيئات الملائمة في كل مذهب يذهب فيه ونحو ينحى به ألذ وأطيب من الجمود به على حالة واحدة في كل نحو من أنحاء الكلام"[19].

وهكذا تكون جماليات المزج بين عناصر الكلام في مستوياته المختلفة من الأصوات إلى الجمل إلى الأساليب متشابهة.

ومن هذا المنطلق يمكن أن ينظر إلى الزحاف والعلة باعتبارهما "عملية تغيير بسيط يلون الاطراد الصوتي"[20]. لمتتاليات الوزن المتماثلة "فيقضي على يمكن أن يقع فيه من رتابة ويحفظ للاطراد خاصيته المنتظمة في نفس الوقت، وبذلك يمكن أن يكون للزحاف وظيفة جمالية"[21] وبذلك تكون ظواهر العلل والزحافات، بالإضافة إلى كونها نابعة من الخصائص الصوتية الصرفية للغة، نابعة كذلك من حساسياتها الجمالية والتي من أهم خصائصها كراهية توالى الأمثال.

ومما يؤيد هذا التفسير أن "النص الشعري علامة (Signe) غير متجزئة يتأكد تكاملها عبر تفاعل المستويات المكونة لتنظيمها وعلاقات هذه المستويات في مجال المستوى التأليفي"[22].

وعلى هذا ينبغي أن يكون تفسير ظواهر الزحافات والعلل أوغيرها من الظواهر الإيقاعية منسجما مع التفسير الكلي للشعر من المستوى الصوتي إلى المستوى النصي. فما دام الشعر تكوينا لغويا، فإن تلمس خصائصه الفنية والجمالية ينبغي أن يكون منطلقا من الحساسيات الجمالية للظاهرة اللغوية نفسها.

ومن هنا يكون من جماليات التأليف الصوتي أن "يأتي في حروف متباعدة"[23] كما يكون من جمالياته كذلك أن يأتي على "هيئات" من الجناس، كما يقابل الزحاف الانتظام في الوزن. كما أن التشاكل في الصيغ والجمل والاساليب يتخلله عدم التشاكل فيها.

وهذا التلوين في الاصوات والمقاطع (من خلال الزحافات) وفي الصيغ والجمل والاساليب هو الذي يعطي الإيقاع حيويته؛ فبدونه يصبح آليا وجامدا وفارغا من المعنى.

[1] الدكتور بدوي طبابة: قدامة بن جعفر والنقد الأدبي. مكتبة الانجلو مصرية، القاهرة 1969، ص/172.

[2] عبد القاهر الجرحاني: أسرار البلاغة. تحقيق السيد محمد رشيد رضا. دار المطبوعات العربية د.ت، ص:167.

[3] الدكتور سعد مصلوح: المصطلح اللساني وتحديث العروض. مجلة فصول عدد 4سنة 1986، ص:191.

[4] أسرار البلاغة، ص:32.

[5] انظر ديفيد آبركرومي (ت) محمد فتيح: مبادئ علم الاصوات، مطبعة المدينة 1988، ص: 146-149.

[6] محمد لطفي اليوسفي: الشعر والشعرية، الدار العربية للكتاب، تونس 1992، ص:58.

[7] حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراح الأدباء. تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة. دار الغرب الإسلامي، ص:222.

[8] رومان جاكبسون (ت) محمد الولي. ومبارك حنون: قضايا الشعرية. الدار البيضاء 1988، ص:106.

[9] أرشبالد مكليش (ت) سلمى خضراء الجيوسى: التجربة والشعر. آفاق الترجمة. عدد(11) 1996، ص:23.

[10] Maurice-Jeun Le febvre: Structure du Discours de la poésie et du recit. Suisse. 1977 P. 48.

[11] الشعر والشعرية، ص:60.

[12] قضايا الشعرية، ص:106.

[13] محمد الهادي الطرابلسي: بحوث في النص الأدبي. الدار العربية للكتاب تونس، 1988، ص:30.

[14] منهاج البغاء، ص:222.

[15] صلاح فضل: بلاغة الخطاب وعلم النص. لونجعان القاهرة. 1996، ص:59.

[16] قضايا الشعرية، ص:106.

[17] نفسه، ص:107.

[18] الدكتور كمال أبو ديب جدلية الخفاء والتجلي دار العلم للملايين 1981، ص:109.

[19] منهاج البلغاء، ص:348.

[20] جابر عصفور: مفهوم الشعر. دار التنوير. بيروت 1983، ص:256.

[21] نفسه، ص:256

[22] ب جونسون (وآخرون) (ت) أمينة راشد: مداخل الشعر، آفاق الترجمة، عدد 13 سنة 1996، ص:100.

[23] منهاج البلغاء ، ص:222