المصطلح: بناءٌ تحتيٌّ للترجمة وجودتها د.هيثم غالب الناهي مدير عام المنظمة العربية للترجمة

اثنين, 06/18/2018 - 12:15

تمهيد

منذ بدء الترجمة كفنِّ يجمع بين الثقافات والحضارات الأخرى مع نهاية العهد الأموي بالشام وبزوغ العهد العباسي في بغداد، وتتويج الترجمة ونعتها بأم التنمية والانفتاح على العلوم كافة ومروراً بإعادة ما تم ترجمته إلى العربية للغة اللاتينية واللغات الأوروبية الأخرى مع القرن الميلادي العاشر وليومنا هذا، كان المصطلح العلمي الشغل الشاغل للمولعين بهذا الفن. فاستنباطه واستقصاؤه وتوحيده وشرحه ومن ثم استخدامه كان من المعضلات التي عاناها إسحق بن حنين وقسطا بن لوقا وغيرهما، ولكن أرسى هؤلاء البنيان المتين لتستمر الترجمة وليتم هضم العلوم من خلالها ومن ثم الانطلاق لإيجاد علوم أخرى في هذا المضمار. مضمارٌ خلد فيه العرب المسلمون وأصبح أساساً في بناء المجتمعات الأخرى في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين بعد محاولاتٍ عديدة للاستفادة من الترجمة والمصطلح وتفسيره.

فالمصطلح العلمي سواء أردنا أم انثنينا بعيداً عنه أو عن اللغة يعتبر وسيلة علمية حية لنقل الفكرة بلفظ معين يجمع في داخله الذاتي المعنى الظاهر والباطن للشيء العلمي المراد الإتيان به. أي خلاصة القول هو أن المصطلح لفظ له معانٍ كثيرة يعتمد على التخصص لوضع المفهوم سواء في العلوم البحتة أو الإنسانية بما لا يتجاوز الدلالات المعنية للشيء. فعلى الرغم من بعضهم ينعته بالاصطلاح إلا أن المصطلح والاصطلاح يعنيان الهدف نفسه مع الاعتبارات التاريخية واللغوية لاستخداماته. فمنذ القدم استخدم العرب لفظ المصطلح الدلالي خصوصاً في كتب الحديث النبوية والتي منها الألفية في مصطلح الحديث للزين العراقي ونخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر للعقلاني ومصطلح الإشارات في القراءات زوائد المروية عن الثقات. هذه الإلمامة التاريخية أردت منها بيان ورود المصطلح قديماً لأنه يمثل ظاهرة حضارية ثقافية تمعن في دلالات الأشياء وصقلها وتوظيفها بما ويتلاءم مع العلوم المدروسة، ضمن سياقات تعليلية للمعنى في لفظ مبسط يحمي المعرفة في داخله. لذا فهذه الورقة سوف تجول وتصول بصورة مختصرة في دلالات المصطلح وأهميته ومدى دقته وتعدده وكيفية التعامل معه وما هي مؤثراته على اللغة العربية، إضافة الى التداولية فيه ومدى سبك الرؤية في تطوير المادة المترجمة ومردوداتها العلمية والمعرفية، مهتمين ببنك المصطلحات الخاص بالمنظمة العربية للترجمة كبذرة لوضع الضرورات الآلية لبناء مشروع علمي معرفي متواصل للمصطلح.

المصطلح في هموم اللغة والتاريخ

دأب العرب منذ القِدم على استخدام مصطلحات أسهمت في التفسير القرآني والحديث والفقه وغيرها من الأمور الشرعية، لكون المصطلح ما إن يمكن أن نميز الاختلافات فيه من خلال الاستخدام الدقيق حتى نتمكن من أن نبرز من خلاله ما نحتاج بالضبط من أسس علمية حكيمة يمكننا من خلالها إطلاق الأحكام الصحيحة والصائبة في أي منحى نريد أن نولج فيه آراءنا. فلذا عند بداية حكاية التاريخ في المصطلح نرى أن المتصوف عبد الرزاق جمال الدين الكاشاني المتوفى في 736هـ (1335م) هو أول مَن اعتنى بالمصطلح أو كما كان يطلق عليه العرب بالاصطلاح لغوياً. وقد برز هذا الاهتمام من خلال كتابه الموسوم “إصطلاحات الصوفية” الذي حققه المستشرق النمساوي ألويس سبرنجر (Aloys Springer) (1813-1893)[1]. كما استمرّ الكاشاني في الاهتمام بالمصطلح وإيجاد الوجيز للدلالات الصوفية في الكتب التي تلت كتاب الاصطلاحات، وعلى هذا المنوال جاء دأب الكاشاني بترديد كلمة مصطلح حتى في مقدمة المعجم الموسوم “لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام“[2] الذي جاء فيه “أحببت أن أجمع هذا الكتاب مشتملاً على شرح ما هو الأهم من مصطلحاتهم”.

لقد توالى العرب والمسلمون على الضلوع في توظيف هذه اللفظة للدلالات على مسرورات الأشياء وعناصرها المترابطة التي توضح المعنى والعملية في وقتٍ واحدٍ دون شروحات طويلة. أي أن العرب من خلال استخدامهم مبكراً لفظة مصطلح كان الهدف منها أن تتوحد سيرورات الأشياء ليتفعل العقل في تصور عناصر ما هو مرتبط بالمصطلح. فهذا الخوارزمي الذي بعلمه لا بد أن يتواشج الفكر والإدلال بوصف المصطلحات لكونها حسب قوله مفاتيح العلوم وفهمها. فهو يرى أن فهم المصطلح يعني فهم نصف العلم لكون المصطلح يعبر عن المفهوم،ولكون المفاهيم التي بجمعها ستكون منظومة المعرفة الفكرية لأي علم من العلوم. فلذا استخدام اللغة بصورة صحيحة والبحث في أتونها عن الكلمة الوصفية للمفاهيم المعرفية ستكون اللغة من خلاله وعاءً حاملاً للضمنية المعرفية والدلالة الاستدلالية وسيكون عند النضج الفهمي أداة التواصل المعرفي بين العاملين على أي علم يتوق إليه هذا المصطلح أو ذاك. لكون المفهوم التصويري لأي مصطلح يوفق التصور الوصفي لكونه عند الفهم يتخزن في داخل الدماغ ويستدعى كعملية متكاملة موسومة بكلمة وصفية متى أراد المتخصصون التعامل مع جانب من جوانب البحث العلمي وتطوره.

إن إدراك العرب والمسلمين للمصطلح وما له من دور كبير في حصر الوصف الفهمي للعلوم وتطويرها دفعهم مع بداية الترجمة ونقل العلوم إلى الاعتناء بالمصطلح، فلذا اتفق اللغويون العرب من بداية الدولة العربية الإسلامية على التركيز على المصطلح وتعريفه كي لا يحيد المعنى الأساس والهدف الاستدلالي إلى المساس بما لا يمس العلم والعلوم مباشرة. فهم اتفقوا ضمنياً وفهمياً واستدلالياً على أن المصطلح هو ما يتفق عليه المتخصصون ليعني في مفهومه الدلالي على مدلول معين للتعبير عن شيء تتخلله عناصر لأشياء ضمنية تعطي دلالة بمنظومتها الكاملة. فلهذا وضمن هذا السياق فقد ذكر أبو العباس أحمد القلقشندي (1355م – 1418م) في كتابه صبح الأعشى في صناعة الإنشاء[3] المصطلح بما هو مفيد وما هو عتيد حين قال “على أن معرفة المصطلح هي اللازم المحتم والمهم المقدم لعموم الحاجة إليه واقتصار القاصر عليه”. أما الشريف علي بن محمد الجرجاني (1339-1413) فقد ذكر في كتاب التعريفات المتخصص في تحديد معاني المصطلحات المستخدمة في عصره في الفنون والعلوم أن المصطلح هو “عبارة عن اتفاق قوم على تسمية شيء باسم ما ينقل عن موضعه أو إنه إخراج اللفظ من معنى إلى آخر لمناسبة بينهما”[4].

لقد فتح المصطلح وكيفية التعامل معه وتقنيته واستخدامه باباً علمياً جديداً في عصر الترجمة العباسية وما بعدها، حتى صار الإتيان به في لب الموضوع باباً مهماً في الترجمة أو العلوم العربية الإسلامية المؤلفة تأليفاً. وبهذا الخصوص يقول آية البقاء الكوفي المتوفى العام 1683م في الكليات “المصطلح هو اتفاق القوم على وضع شيء وإخراج الشيء عن المعنى اللغوي إلى معنى آخر لبيان المراد”[5]. ومن هذا المنطلق العلمي سعى مرتضى الزبيدي (1732م- 1790م) عالم الحديث واللغة والذي يعتبر أول من جمع اللغة العربية وقعدها وصاغ المصطلح العلمي والفهمي فيها، ليبين المصطلح بأنه “اتفاق طائفة مخصوصة على أمر مخصوص”[6]. فالزبيدي في أدلجته لمفهوم المصطلح أراد أن ينهي نزاعاً ظل قائماً لسنوات عديدة لا يمكن فضه في التعريف والاستدلال. وهو بالفعل قد حسمه حسماً علمياً قاموسياً حين أناط اللثام عن الإتيان بتتبع اللغة والاستناد إلى المعنى المحدود في اللغة العربية لأي لفظ. فحين يتفق الكيمائيون على مصطلح خاص بتفاعل ما يعني هذا أمر مخصوص وخاص بهذه العملية دون غيرها، وكذا الأمر ينطبق على الاختصاصات الأخرى. ولعلنا هنا نؤكد أن ما جاء به الزبيدي وغيره في المصطلح كان في وقتٍ صارت الترجمة من العربية إلى اللاتينية أو اللغات الأوروبية الأخرى هماً طال الزمن به أو قصر لكل الدول الحديثة التي كانت تغص بالظلام حين كان الزبيدي ومن سبقه يغطون بالعلم وحين كانت بلادنا تفخر بالعلماء. فهو قد حل هذا الإشكال ليس باللغة العربية ولكن في اللغة الأخرى التي أخذت العلوم عن العربية لتسهيل فهمها وهضمها. وهو ما فتح في العصر الحديث أبواباً جديدة لفهم المصطلح وتطويره مع التطور الذي حصل في العلوم وتفرعاتها الأخرى.

 

نشأة المصطلح حديثاً وأهميته

حين نقول أنّ المصطلح يغني اللغة العربية ويطورها، لا يعني أن المصطلح يدخل كلمات جديدة أو كلمات قاموسية أُعيدت لتأخذ مكانها في التداول العلمي واليومي فحسب، بل إن المصطلح يمكنه أن يكون تفسيراً لحالة تاريخية أو علمية أو منطقية. فعلى سبيل المثال، حين نستخدم مصطلح “عصر النهضة” لا يعني كلمة لغوية عربية تتصل بفعلها بالعصر والنهضة بقدر ما هو أن المصطلح أبعد ثقافياً ودلالياً عن معاني الكلمات بموضوعاته. فمصطلح عصر النهضة مثلاً يعني الانتقال الفكري والمعرفي والثقافي من العصور الوسطى (ما بين وخلال القرنين الرابع عشر والسادس عشر الميلاديين) إلى العصور الحديثة. ناهيك عن أن هذا المصطلح على بساطته يؤرخ لسقوط القسطنطينية عام 1453م واتجاه وجهة هجرة العلماء والمفكرين والمعرفيين نحو إيطاليا ليعيدوا نشر الفكر والمعرفة اليونانية والرومانية. وإذا أردنا أن نغوص أكثر في دلالات المصطلح وأنغامه المعرفية سيكون دلالة للثقافة والفكر وكيفية بدايته في إيطاليا في القرن الرابع عشر الميلادي والانطلاقة من هناك إلى فرنسا وإنكلترا وألمانيا ومن ثم لجميع أرجاء أوروبا. هذه إلمامة بسيطة لتوضيح مفهوم المصطلح منذ التأسيس ونهاية بتطوره وصياغته ومفاهيمه ودلالاته، فكيف اليوم الذي تطورت فيه العلوم والاختصاصات؟ فلا بد من أن يكون هناك منطلق ذاتي للتعريف به والتعرف عليه.

المصطلح وكيفية صياغته واستخداماته ليس حديثاً كما يصفه البعض بأنه أوروبي المنشأ اتفق عليه ليكون “مفهوم أو عبارة مركبة استقر معناها أو استخدامها وحُدد بوضوح ليكون تعبيراً خاصاً ضيقاً في دلالته المتخصصة وواضح لأقصى درجة ممكنة وله ما يقابله في اللغات الأخرى”[7]. فهذا التعريف يلغي واقعاً كل الجهود العربية والإسلامية وغيرها التي بُذلت لإيجاد علم المصطلح واستخدامه، فهو فيه فجوات كبيرة منها أن يكون تعبيراً خاصاً وضيقاً، في حين ما تحدثنا فيه عن مصطلح عصر النهضة يبين مدى إمكانية أن يكون مصطلحاً يضم في دلالته التاريخية واللغوية والثقافية والفكرية وحتى سير الحقبة وسلوكية الناس. وعليه فإن أدق تعبير للمصطلح يجب أن يتخلل عناصر أساسية منها الاتفاق على دلالة المعنى لأي معنى علمي يصب في توضيح صيرورة الأشياء المراد الاستدلال بها. وهذه الدلالة لا يمكن أن تجد طريقها إلى التفعيل والاستخدام كعرفٍ ما لم تكن هناك اتفاقية بين المهتمين تؤكد صحة إطلاق المصطلح على عملية معينة ما. هذه الأساسية التي لا بد أن تُؤخذ بعين الاعتبار في المصطلح التي بجانبها توضيح الدلالة الجدية الخاصة بالمصطلح والتي لربما لا تتطابق بصورة مباشرة مع المعنى اللغوي كما وضحنا آنفاً مفهوم مصطلح عصر النهضة. وهذا لا يمنع التوافق والتشابه الدلالي ما بين المصطلح الذي وقع عليه الاصطلاح وبين المفهوم العام للمعنى اللغوي اللفظي لتلك الكلمة.

ضمن هذه السياقات ومن خلال تطور الاهتمام بالمصطلح ولأهمية تبسيط الفهم والتبادل الحضاري ومع التوافق والقبول والنقاش حول العلوم ومنجزاتها، بدأ الاهتمام بالمصطلح وتوحيد استخدامه مهنياً وأكاديمياً من قبل علماء الرياضيات في القرن التاسع الميلادي لكي يكون باباً مهماً من بعد ذلك في الفلك والفلسفة مع القرن الثاني عشر الميلادي. إلا أن النقلة الحقيقية في استخدامه كانت من نصيب علوم الكيمياء والأحياء والطب حيث بدأت أوروبا بصورة جلية توحيد مصطلحات تلك العلوم مع بداية القرن العشرين. وقد حرص المهتمون بهذا الموضوع على توحيد المصطلح ليس في لغة المنشأ ولكن حتى في اللغات الأخرى ليتمكن المتخصصون التفاهم فيما بينهم وإن لم يجيدوا اللغة تماماً للتواصل فيما بينهم.

لعل أول بادرة في المصطلح العلمي الدلالي الذي فجر مبررات وجوده وضرورات التأني فيه كانت مع ما صدر عام 1906م، وعلى مدى أكثر من22 سنة تمكنت مؤسسة شلومان من إصدار معجمها المصور التقني الخاص بالمصطلحات بواقع 16 مجلداً وبست لغات[8]. ميزة هذا المعجم لم تكن عفوية كما عرفنا وجود الكثير من المصطلحات المعرفية الدلالية بقدر ما كانت ميزته تكمن في الترتيب المبني على أساس المفاهيم والعلاقات القائمة ما بين المصطلحات. وهو ما سهل فهم المصطلح والإتيان باستخدامه لكون المجاميع المتوافقة والمتداخلة ما بين المصطلحات أدت بصورة غير مباشرة إلى توضيح مدلول المصطلح وتفسيره بصيغة مقبولة مقرونة بالصورة.

لقد أسهم صدور معجم شلومان بهذه الصيغة وهذه الطريقة في تشجيع الخبراء والعلماء الآخرين على ضرورة اعتماد المصطلح ضمن السياقات الدلالية لوظيفة العملية العلمية. وهو ما دفع العديد من المؤسسات العلمية الهندسية وغيرها إلى وضع مصطلحاتها الدلالية بصيغ تراجع سنوياً ضمن إطار الإضافات والحذف والتبادل والتطوير لأي مصطلح. حتى بات اليوم في الكثير من التقنيات التي تهم حياة الإنسان المجتمعية أن هناك رقماً دلالياً لأي مصطلح يعوض عن الشرح الخاص لأية مادة أو عملية معينة. وعليه ضمن هذا السياق الذي لا نريد أن نتطرق فيه بما يودنا في الخروج عن لب الموضوع الذي نحن نقصده. هذا الموضوع هو كيف أن الترجمة أثرت اللغة بالعديد من الكلمات الدلالية وطورتها وستسهم أيضاً في المستقبل في تطوير اللغة العربية قياساً باللغات الأخرى المعتمدة علمياً في هذا العالم الصغير. من خلال ذلك نود أن نقول أن المصطلح في عصرنا الحالي قد أخذ طوراً وفهماً جديدين في عملية صياغته ودلالته المعرفية التي أضافت بما لا يقبل الشك العديد من المستجدات للغة العربية وحسنت من أداء مستخدميها بدلاً من أنهم لغرض الفهم يمزجون بين لغة ولغة أخرى.

ضمن هذا السياق سوف نستعرض تجربة المنظمة العربية للترجمة في المصطلح وضرورات اعتماده وتوحيده كي تكون التنمية الفكرية المعلوماتية الدلالية واحدة لدى القارىء. وهو ما يعزز التحديث والتطور وتوافق اللغة بين اللهجات المتعددة.

المصطلح والمصطلحية ودورهما في الإغناء اللغوي

دأب العديد من العلميين منذ تأسيس مبدأ الترجمة ليومنا هذا على السجال فيما بينهم حول مفهومين أساسيين هما المصطلح والمصطلحية، وذهب البعض إلى التنظير في هذا الشأن لحد أن البعض فلسف المصطلحية بقوله إنها الأفق الذي يُعنى بدراسة المصطلح وهي تختلف تماماً عن مفهوم المصطلح. فالمصطلحية عند بعض الآراء هي الدراسة المورفولوجية المجردة في ارتباطها بالمفهوم.

هذا السجال رغم طول مداه، إلا أنه عزز الاهتمام بالمصطلح وجعل منه علماً لغوياً تطبيقياً ارتبط ارتباطاً وثيقاً في السنوات العابرة والغابرة والقادمة سيكون مع الأسس العلمية التطبيقية للغة واللسانيات. وبهذا نرى عالم الهندسة الكهربائية النمساوي أيكن فوستير (EugenWüster) (1898–1977) صاحب كتاب توحيد المصطلحات الهندسية الدولية الصادر عام 1931م في فيينا يقول[9]، “هناك ضرورة لمعرفة أن علم المصطلح ما هو إلا علم يربط بين علم اللغة والمنطق وبعلم الأنطولوجيا وعلم المعلومات ومنه إلى العلوم الأخرى المعرفية”. وبهذا فإن فوستير قد حدد معالم المصطلحية لتفسير الهدف وليس لقياس المصطلح بالهدف نفسه، خصوصاً وأنه تمكّن من تحديد المفاهيم وعلاقاتها مع بعضها البعض والتي من خلالها تمكن من وضع تصنيف لها لا يتعدى مفهوم العلم ذاته وصولاً إلى المعجمية التي تجمع في بوصلاتها منهجية البحث الدلالي المعرفي لأي حالة من الحالات أو عملية ما تحتاج إلى تفسير علمي ينحصر بكلمة معلومة ذات مغزى دلالي.

من خلال ما تقدم يمكن أن نقول إن المصطلحية في تفسيراتها لذوات المعاني الاصطلاحية يمكن أن يكون سياقها محصوراً بالدلالة التكوينية للمصطلح الذي هو غالباً ما يكون ظاهراً في معنى الكلمة لا ضمن دلالاتها السائبة والمختفية فحين نقول اصطلاحياً ماء لا يعني الماء في اللغة الذي اعتدنا عليه. لكون الماء يدخل ضمن مصنفات علمية أخرى منها الكيميائية التي تقسمه لأواصر هيدروجينية وأوكسجينية، وحين يدخل في تصنيف الفيزياء نرى الإصطلاحالتبخيريوالتجميدي ذا العلاقة بالماء وعملية دورته يأخذ طابعاً مهماً في شرح بواطن الأمور الدلالية المعرفية. وعليه فإن المصطلحية إذا كانت تعني الترابط بين العلوم فهي الدالة المعرفية ذات الحركة المفتوحة دون حدود لتحديد العلاقة بين علم وعلم بمفاهيم ترتبط بعملية ولكن بسير عملية مختلفة. فلو افترضنا استخدام كلمة خليةcellفبالتأكيد كمصطلح مفهوم في أي علم من العلوم سواءً كان بيولوجياً أو إلكترونياً أو في العلوم الاجتماعية، ولكن اصطلاحية المصطلح في تعريفه يجعل من المصطلحية تقوم بترتيب المفاهيم وصياغة العلوم وتفسير المصطلح ووضع منهجيته وهو بالنهاية ما يزيد في اللغة اصطلاحاً تعزيز الاستخدام العام للغة والاستخدام التخصصي للمفهوم لأي علم ويجعل من الصيغة الاصطلاحية للمصطلح مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بصورة متكاملة لذلك العلم المتخصص.

مهما كان السجال والخلاف ما بين المصطلحيين والاصطلاحيين إلا أن النهاية القصوى للمفهومين تصب في أن العلوم باتت اليوم أكثر اتساقاً ومنهجة وأكثر فهماً للمتلقي لأنها تحصر المفاهيم الدلالية المعرفية في وحدة إدراكية عقلية متكاملة تؤدي بالنتيجة إلى وضع المفهوم بصورة صحيحة. هذه الصورة تجعل المتلقي يهضم المفهوم ويتعامل مع العلوم المعرفية فيهضمها وينتج علوماً أخرى بمفاهيم جديدة وباستخدامات لغوية عتيدة تضاف إلى محتوى العربية. ولربما يمكن منتجتها بصورة تتلاءم مع لغة المصطلح الأصل والتعامل معها في اللغة العربية اصطلاحياً بصورة مفهومة فتزيد من علمية اللغة. وهنا لا بد لنا من دلالة على ذلك، ولعل خير مثال على هذا هو الإصابة بالانفلونزا إذ الإصابة عملية مصطلحية يمكن شرحها تؤدي في النهاية إلى النحول والحرارة العالية فيقال إن فلاناً مصاب بالإنفلونزا دون أي تعليق. فالفكرة تنتقل لاإرادياً إلى عمق الفهم والترابط ما بين حادث الحدث وفعل الحدث ومؤثراته. وكذلك هذا ينطبق على آلة الفاكس واستخداماتها والكومبيوتر واستخداماته وغيرها من التقنية التي وجدت طريقها بلفظها المصطلحي بلغة الأصل إلى اللغة العربية، لتغني وتؤكد رغم وجود مقابلها عربياً، لكن صورة المصطلحية وشرحها أغنت مَن لا يمكن أن يغنى بما ورد.

من هنا يمكن أن نقول إن هناك تواشجاً ما بين المصطلح والمصطلحية، حيث المصطلح بمثابة أداة الفكر لكل علم والمصطلحية بوتقة ذلك العلم لكي يكون المصطلح وسيلتها في التعليم والبحث. وذلك لأن المصطلحية من عناصرها الأساسية هو تحديد المفاهيم ووضع المصطلح الدال على تلك المفاهيم. ناهيك عن جعل تلك المصطلحات ما هو مأخوذ من لب المفهوم المعرفي الإدراكي للحالة كي يستوعبها المتلقي.

المنظمة العربية للترجمة ومصطلحاتها

حين نتحدث عن المصطلح ومدى إمكانيته في إغناء اللغة العربية لا بد من الخروج من فوهة التنظير ومجال التدقيق والاختلاف بين هذا المفهوم وذلك إلى ساحة التفعيل والتطبيق العملي. لكون هذا الأمر سيدلنا على نواحٍ عديدة مهمة تحدث المصطلح من جانب وتهذب لغة المستخدم وتغني اللغة واستخداماتها اليوم بالجديد ذي المفهوم المعرفي الذي ينعكس بما يتلاءم مع واقع ما تطمح إليه الأمة. وبالاستناد إلى هذا الأمر فإن المنظمة العربية للترجمة ومنذ تأسيسها كان من أهم أهدافها أن يكون لأي كتاب مترجم من أي لغة كمٌ من المصطلحات المقابلة للغة العربية، شرط أن تكون هذه المصطلحات تعريفية دلالية تؤدي لذلك الاختصاص مفهوماً يمكن من خلاله الإتيان بالمنهج المراد استخدام المصطلح فيه. فالمصطلح في أي كتاب علاوة على أنه دلالي معرفي لكنه لا يخرج عن إطار اللغة العربية وسلاسة فهمه واستخدامه للدال. فالمدلول على ما هو يشار إلى صيرورة عمله باختصار يفهمه المتلقي كان من أولويات الكتب الصادرة منذ العام2002 البالغة حتى العام 2011م 157 كتاباً وحتى العام 2012م 256 كتاباً. ولكل كتاب بأي اختصاص حصيلة كبرى من المصطلحات، دعت المنظمة للاستفادة منها والإفادة بها. وعليه ضمن هذا الإطار سوف نناقش بصورة عملية إسهامات هذه المصطلحات في إغناء اللغة العربية لمدى أهميتها وتداخلها الجمعي الاجتماعي والخلط الفردي العلمي.

من هذا المنطلق قمنا بوضع تلك المصطلحات دون المصطلحية في بوتقةٍ واحدةٍ مع حفاظ كل اختصاص بعناصره المهمة التي تميزه عن الاختصاصات الأخرى. ولما كان للمنظمة عدة لجان علمية تنخرط تحتها مجموعة من الكتب المتخصصة فقد كان التوزيع المصطلحي لهذه البوتقة ضمن ما ورد في الشكل رقم(1). فقد حوى هذا الشكل أو المخطط تسعة مجالات متعددة مختلفة بقياسات مصطلحاتها العلمية جُمعت على عدة سنوات من كتبٍ أصدرتها المنظمة العربية للترجمة خلال سنواتها الاثنتي عشرة السابقة. حيث قسم الشكل على فترات تصل كل فترة لخمس سنوات لكي تكون التقنية الحاسوبية فيها للتحديث والتبديل والإثبات متلائمة مع ورود المصطلح وتقاطعه في العلوم الأخرى ولكن بمعانٍ مختلفة تتواءم مع المفهوم اللغوي للكلمة وتختلف عن التعبير الاصطلاحي من خلال تعريفه المصطلحي من مجال إلى مجال آخر.

هذه الحالة العلمية مكّنت المنظمة العربية للترجمة من جمع مصطلحات علمية في المجالات المتعددة بما يقارب 55،456 في العلوم الإنسانية وما يقارب 52،312 في العلوم البحتة والتقنية جميعها غير مكرر وهادف للدلالة المعرفية والتفسيرية لغرض إدراكه ضمن السياق الذي يمكن التعامل معه. وهنا لا بد أن نضيف بالقول إن هناك ما يقارب 45 كتاباً آخر ضمن إصدارات المنظمة لعام 2013م جارٍ تحديث المصطلحات فيها، بواقع لا يسمح تكرار المصطلح أو إعطاء معنى لا يتوافق مع حجية الموضوع أو أنه يعطي معنى مخالفاً. أي أن العمل في تفعيل اللغة العربية وإثرائها بالمصطلح وإثراء المصطلح بها مازال يحدث سنوياً مرتين في المنظمة وجعله متوفراً للباحث والمهتم. ومن هذا السياق ولبيان الدلالة المعرفية للمصطلح وكيفية إغنائه للغة ودون الخوض في التقنيات المعلوماتية التي تمت وبالاعتماد على خبراء الاختصاص المترجمين سوف نؤكد على الكتب العلمية لعامي 2011 وعام 2012.

[1]الرشيد، محمد بن عبد الله، الإعلام بتصحيح كتاب الأعلام،  بيروت: دار ابن حزم، 2001م.

[2]عبدارزاقالكاشاني، لطائف الإعلام في إشارات أهل الإلهام: معجم المصطلحات والإشارات الصوفية، المجلد 2، دار الكتب المصرية، 1995م.

[3]أبو العباس أحمد القلقشندي، صبح الأعشى في صناعة الإنشاء، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1922م.

[4] الشريف علي بن محمد الجرجاني، تحقيق: ابراهيم االأبياري، كتاب التعريفات: معجم المصطلحات، الطبعة الاولى،  دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، 1975.

[5]أيوب بن موسى الحسيني القريميالكفوي، أبو البقاء الحنفي، الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، تحقيق عدنان درويش ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت- لبنان، 2010م.

[6]محمد مرتضي الحسيني الواسطي الزبيدي ، تاج العروس من جواهر القاموس، وزارة الإرشاد والأنباء الكويتية، الكويت، 1965م.

[7] محمود فهمي حجازي، الأسس اللغوية لعلم المصطلح، دار غريب للطباعة والنشر، القاهرة- مصر، 1995م.

[8]Pulvermüller، F. (1999). “Nouns and verbs in the intact brain: Evidence fromevent-relatedpotentials and high-frequency cortical responses”.Tübingen: Oxford Journals9: 497–506.

[9]International Sprachnormung in der Technik، besonders in der Elektrotechnik (International Languagestandardization in technology، particularly in electrical engineering.’). (Die nationale SprachnormungundihreVerallgemeinerung) (The national languagestandardization and generalization). Berlin: VDJ 1931. 2nd edition. Bonn: Bouvier 1966.

 

عن مجلة المعهد العربي العالي للترجمة (معبر)