بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى اللـه على النبي الكريم
﴿يَٰٓأَيَّتُهَا ٱلنَّفۡسُ ٱلۡمُطۡمَئِنَّةُ * ٱرۡجِعِيٓ إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةٗ مَّرۡضِيَّةٗ * فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي * وَٱدۡخُلِي جَنَّتِي﴾
فقدت موريتانيا والأمة العربية والإسلامية، بل وفقدت الإنسانية، قبيل فجر الأحد 29 جمادى الآخرة 1444هـ/ 22 يناير 2023غ علما من أعلامها العظماء وكوكبا منيرا من مجرة العلم والفكر والأدب في سمائها العالية.
ذلكم هو الشيخ الدكتور محمد المختار اباه، أغدق اللـه عليه شآبيب الرحمة والرضوان، وهو أحد رواد تأسيس وتسديد مسار الجمهورية الإسلامية الموريتانية، وأحد أبرز رجالات الوطن الذين امتد إشعاعهم العلمي خارج الوطن، عربيا وإسلاميا وإفريقيا ودوليا.
كان عليه رحمة اللـه شخصية فذة جمعت بين الموسوعة العلمية، والسمو الأخلاقي، والنبل الاجتماعي، والعفة السياسية.
ولد العلامة الراحل سنة 1924غ بضواحي النباغية (مقاطعة أبي تلميت) في بيت عريق في العلم والفضل؛ حيث روى نبوغه الفطري من علوم الشريعة والعربية ونهل من معينها حتى صدر. ثم قادته همته الطموح ونفاذ بصيرته واتساع رؤيته إلى دخول معترك العلوم والمعارف الحديثة، فالتحق بالتدريس سنة 1948غ، دون أن تفتر همة التعلم أو تكل إرادة التحصيل المعرفي لديه، حيث زاوج بجهده الخاص بين التدريس والتعلم بشقيه: التقليدي والعصري حتى دانت له المتون المحضرية من جهة، وذلت له اللغة الفرنسية وأدابها وعلومها من جهة أخرى، فكان أول موريتاني يحصل علي شهادة دكتوراه الدولة، من جامعة السربون الفرنسية العريقة سنة 1975 بعدما حصل من نفس الجامعة على شهادة التبريز في الآداب العربية سنة 1971غ.
انخرط علمنا الراحل في النشاط السياسي الذي كثفته إرهاصات الاستقلال، فكان له الدور البارز في إثارة الوعي الوطني والسعي لإنهاء الاحتلال الفرنسي من خلال حزب النهضة المناوئ للوجود الفرنسي. فأنيطت به وظيفة الوزارة في أول حكومة موريتانية سنة 1957، في عهد الاستقلال الداخلي.
وأدت معارضة جناحه السياسي لأسلوب التعامل مع السلطات الفرنسية إلى ترك الحكومة ومغادرة البلاد إلى المملكة المغربية، حيث شغل عدة مناصب مهمة فيها. ثم عاد مع مجموعته السياسية إلى موريتانيا بعد حصولها على الاستقلال، حيث دفع بأريحية وسخاء ضريبة مواقفه السياسية المبنية في أصلها على مناوأة الاستعمار.
وبعد فترة يوسفية، أدرك الرئيس الراحل المختار بن داداه رحمه اللـه ضرورة الاستفادة من علم العلَم العائد إلى وطنه فناطت به الدولة منذئذ مهمات تأسيسية كان منها:
- تأسيس أول كلية للتربية في موريتانيا، هي المدرسة العليا لتكوين الأساتذة 1970غ؛
- رئاسة لجنة الإصلاح الشامل للتعليم؛
وأثناء ذلك انتخب الشيخ الدكتور محمد المختار نائبا واختير رئيسا للجان برلمانية.
وبعد انقلاب 1978، التحق المرحوم الشيخ الدكتور محمد المختار اباه سنة 1979غ بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) ممثلا لها لدى المملكة المغربية، ثم لدى جامعة الدول العربية في تونس.
وفي سنة 1984غ انتخب أمينا عاما مساعدا لمنظمة المؤتمر الإسلامي في جدة، ثم عين رئيسا لجامعة النيجر، ثم عمل أستاذا في دار الحديث الحسنية في الرباط، ثم عين أول رئيس للمؤسسة الوطنية لجائزة شنقيط في موريتانيا، قبل أن يتفرغ لإنشاء ورئاسة جامعة شنقيط العصرية في انواكشوط سنة 2006غ، التي نقلها في فترة وجيزة إلى صرح علمي وأكاديمي مرموق.
عاش الشيخ الدكتور محمد المختار اباه حياة طيبة عامرة بالعطاء العلمي الزاخر في شتى مجالات المعارف الإسلامية والإنسانية؛ فقدم عشرات المؤلفات في مجال الدراسات الإسلامية وعلوم القرآن والقراءات، والحديث الشريف والسيرة النبوية وأصول الدين الإسلامي والفقه وأصوله، والشعر والأدب والنقد...
كما حرر ترجمة راقية وعالمة لمعاني القرآن العظيم إلى اللغة الفرنسية ، تعد اليوم إحدى أكثر ترجمات معاني كتاب الله انتشارا.
وإلى ذلك كان الشيخ الدكتور محمد المختار شاعرا مطبوعا، يتميز شعره وأنظامه بقوة الشاعرية وحسن السبك وأصالة الأسلوب.
وختاما مسكا نشر الراحل كتاب سيرته الذاتية: "رحلة مع الحياة"، فجاء مرجعا فريدا لمراحل حياته وتوثيقا أمينا لمسارات وأحداث هذه البلاد وخاصة للدولة الموريتانية، وكأنه أراد أن يودع به ويعلن به الرحلة عن هذه الحياة الفانية.
شرفت عدة هيئات بعضوية الشيخ الدكتور محمد المختار اباه، حيث كان عضوا في:
• مجمع اللغة العربية في القاهرة
• مجمع اللغة العربية في الخرطوم
• مؤسسة آل البيت في الأردن
• اللجنة العلمية لجائزة محمد السادس للفكر والدراسات الإسلامية
• المجلس الأعلى لـمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة.
وكان من دواعي شرف مجلس اللسان العربي بموريتانيا أن قبل الراحل الجليل رئاسة اللجنة الاستشارية لمجلة اللسان المحكمة.
وإن مجلس اللسان العربي بموريتانيا إذ ينعي ببالغ الأسى هذا الركن العلمي الركين والطود الفكري والقيمي الراسخ الشيخ الدكتور محمد المختار اباه، ليتقدم بخالص العزاء إلى دوحته، دوحة العلم والفضل وسائر أفراد أسرته الكريمة، وإلى طلابه وقرائه، وإلى الأمة العربية والإسلامية جمعاء.
وإذ نحتسب الفقيد عند اللـه فإننا نتضرع إلى الله سبحانه أن يوسع مدخله ويكرم نزله، وأن يجزيه عنا وعن الوطن والأمة الجزاء الأوفى، وأن يتقبله في الفردوس الأعلى {مع الذين أنعم اللـه عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}.
وإنا للـه وإنا إليه راجعون.
