عبد العلي الودغيري
بعد أقل من عام على صدور كتاب رحلة مع الحياة لصاحبها الأستاذ العلامة الدكتور محمد المختار ولد باه بالدار البيضاء (المركز الثقافي 2022)، يصلنا هذا الصباح خبرُ النعي الحزين الذي وضع حدّا لنهاية هذه الرحلة الطويلة الحافلة التي عاشها رحمة الله عليه، متنقلاً بين محطاتها ودروبها وسككها المتشابكة التي لم تكن تخلو من مفاجآت ومغامرات وإنجازات وتحدّيات وتقلّبات جعلت منه شخصية غنية بالتجارب ثرية بالمعلومات، مليئة بالعطاء السخيّ الدؤوب المتواصل في مجالات التعليم والتربية والـتأليف والعمل الوطني والإسلامي.
وما يجدر بنا التذكير به هنا في المغرب الأقصى، من جوانب شخصيته التي جمعت بين الخبرة الواسعة في الحياة، والموسوعية العلمية، والتقلّب في عدد من المهمات الإدارية والتعليمية وغيرها، هو الجانب المتعلق بمرحلة استقراره بالمغرب على فترات، بدأت بقدومه إلى المغرب سنة 1958م، مع ثلة من الشباب الموريتاني اليَقِظ الذي كان يؤمن بضرورة المشاركة من الخارج في معركة تحرير بلاده من الاحتلال الفرنسي،، فجاء بعد المرور بالقاهرة والتقائه بالأستاذ الزعيم عبد الخالق الطريق سفير المغرب يدحينها، والتحق بأمير الترارزة محمد فال ولد عمير الذي ما يزال شارع من أكبر شوارع الرباط يحمل اسمه إلى اليوم، والداي ولد سيدي بابا الذي تولى عدة مناصب سامية بالمغرب، أهمها منصب رئيس مجلس النواب في سبعينيات القرن الماضي. ورغم أن هؤلاء الثلاثة كانوا أعضاء في حكومة موريتانية محلية تحت السيادة الفرنسية أحدثت ضمن قانون إطار خاص، فإنهم آثروا مغادرة هذه الحكومة التي لم يكن بيدها شيء يمكن أن تقدمه لبلاده، والتحقوا بالمغرب ضمن آخرين للعمل من داخله على ما يمكن أن يفيد بلدهم ويدفع في اتجاه تقوية الروابط بين بلدان المغرب العربي. وقد استقبلهم الملك محمد الخامس رحمه الله ورحَّب بهم في لقاء خاص، وأحلَّهم مكانةً لائقة، وبوَّأهم مناصب سنيّة في الدولة. وفي هذا الإطار عيّن المختار ولد باه مديرًا للإذاعة الوطنية سنة 1958. ثم اقتضى نظره هو والأمير فال أن يعودا إلى موريتانيا بُعيد استقلالها مؤمّلين أن يساهما من الداخل هذه المرة في خدمة بلدهما ورقيه وازدهاره. ولكن الأمير فال سرعان ما أتاه أجلُه المحتوم مريضًا في أحد المستشفيات، وأما المختار فإن صلته بالمغرب ورجالاته ومثقفيه وطبقته السياسية ظلت قوية لم تنقطع يومًا من الأيام، وظل زياراتُه وإقاماتُه في المغرب متواصلة. وقد عيّنه الحسن الثاني رحمه الله، بعد انتهاء مهامه في منظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة الإسلامية بالنيجر، مكلفا بمهمة في الديوان الملكي، وأستاذًا في دار الحديث الحسنية، باعتبار أنه ظل في نظر المغرب وقيادته العليا مواطنًا مغربيًا كما هو مواطن موريتانيً، وظل منذ أن وطئت قدمه المغرب يقوم بدوره الهادئ في تقوية الروابط بين الشعبين والبلدين ولاسيما في المجالات العلمية والثقافية. فهو من الأشخاص الذين آمنوا بالمصير المشترك للمنطقة المغاربية، وبضرورة تحقيق وحدتها بأي شكل من الأشكال رغم كل العراقيل والعقبات. وعملوا من أجل ذلك قدر جهدهم وما أتيح لهم من وسائل وفرص وإمكانيات، ولم يكونوا يرون في الحدود القائمة بين بلداننا هذه سوى شكليات اقتضتها الضرورات الإدارية الوقتية، ولا تحول بأية حال دون توطيد أسُس الوحدة التي يشعر بها كل فرد من أفراد هذه الشعوب، على المستويات كافة، بدءًا بالمستوى الثقافي والعلمي، وهو اللبنة الأولى في كل بناء.
هكذا كنتُ أرى فقيدنا العزيز وقد خبرته واحتككتُ به لعدة سنوات. فرحمه الله رحمة واسعة، وغفر له وأحسن إليه، وأثابه على كل ما بذله وخدم به أمته ووطنه. وتعازينا الحارة لأسرته الصغيرة وابنه الصديق الخلوق الدكتور أحمد سعيد وكل أهله وعشيرته وطلبته ومُريديه ومحبيه وأبناء موريتانيا الشقيقة وأصدقائه في العالمين العربي والإسلامي، وما أكثرهم. وإنا لله وإنا إليه راجعون.