العربية في وجه العولمة اللغوية / د. المختار الجيلاني

خميس, 09/28/2017 - 12:47
د. المختار الجيلاني

مقدمة

ثمة في عالمنا دائما مناطق ساخنة، كما أن فيه أيضا مصطلحات ساخنة لا تزال تحتل مساحات واسعة في الأعلام بشتى أشكاله (مجلات وصحف إلكترونية وورقية، قنوات إذاعية وتلفزية، سينما، سوشوميديا، وإعلام غير مصنف) ويجري تداولها في كل مكان على أنحاء من التعاطي المجزوء أحيانا والمغلوط أحيانا أخرى. وليس مصطلح العولمة من ذلك ببعيد؛ فهو يتسم بتسارع ارتفاع حرارته دائما عند تناوله في مقاربات السياسة والسيادة والثقافة والهوية، وذلك بالرغم من أن منشأه ومرتكزه الأساس هو الاقتصاد والتجارة.

للعولمة جوانب أدبية تعنى بتطوير الأسس والأصول الكفيلة بإعادة تشكيل العالم المعاصر على نحو يحقق وييسر تنقل السلع والخدمات بين المجتمعات والشعوب المختلفة. وفي ضوء هذه الأدبيات يمكن أن تعرَّف العولمة بوصفها انفتاحا لعمليات المساومة في الاختلافات من خلال حرية الحركة والتنقل والتواصل دون اعتبار للحدود الوطنية أو الإقليمية أو الثقافية.

ولها جوانب عملية تشير إلى أشكال النشاط الإنساني في طور الاتصالات والتبادلات على مستوى العالم، التي تقوم بها الدول والشركات ومراكز القوة العالمية، ويشمل ذلك: المنتجات (المادية والروحية)، رؤوس الأموال، العمالة، التقنية، المؤسسات، المهارات، الخبرات، المعلومات، الأفكار والقيم. وبالنظر إلى أن هذه الاتصالات والتبادلات تجري في العادة بطريقة لا تتيح للشعوب ولا للدول المختلفة توجيهها أو التصرف فيها، فإن تأويل عمليات العولمة بوصفها استعماراً أو ثوباً جديدا للاستعمار، بات أمراً مبرراً.

 

العولمة الثقافية

 ما الجانب الخطر في العولمة إذا استثنينا الاقتصاد والسياسة؟

لا يخفى أن العولمة اليوم باتت تمثل ركيزة الهيمنة العالمية لعدد قليل من الثقافات واللغات الغربية التي يجري تسويقها كسلعة هي الأخرى على مستوى العالم، وهو ما يعني تجاهل ظاهرة التنوع الثقافي واللغوي العالمي، وهدر الخصائص الثقافية لباقي الشعوب والمجتمعات، وصولا إلى تنميط حياتها لتصبح نسخة مطابقة للنموذج الغربي بما تخفيه العبارة من تكريس للأحادية اللغوية والثقافية، حيث يكون للثقافة الغربية الموقع الأفضل والمتقدم في العالم، الذي يمكنها من السيطرة والتحكم فيه.

وفي ضوء انعدام التوازن في القوة بين الأمم التي تنتمي إلى بلدان قوية والأمم التي تنتمي إلى بلدان ضعيفة، تحددت العلاقة بين العولمة والهوية الثقافية في الصدام، واختزلت الصلة بينهما في التنافر والصراع منذ السبعينيات من القرن الماضي؛ ففي الوقت الذي تسعى فيه العولمة إلى خلق وحدة ونموذج يتجاوزان الحدود والخصوصيات، تظل الهويات تكافح من أجل تعددها وتنوعها واختلافاتها خشية إفراغها من مضامينها أو ذوبانها وتبخرها إلى الأبد.

 

العولمة اللغوية

لم تكن قضايا الثقافة يوما منفصلة عن قضايا اللغة؛ ذلك أن اللغة ليست فحسب تعبيراً، ولا أداة للتعبير، عن الثقافة، بل إن الثقافة واللغة كالوجهين للورقة الواحدة؛ إذ إن كل لغة تمثل – حسب همبولت - نوعاً من تفكيك العالم وإعادة بنائه وتنظيمه وفق ألفاظها وبنياتها التركيبية، "إنها تحتوي على ميتافيزيقا خفية، بشكل لا يجعلها تسهم في التعبير عن الفكر، بقدر ما تشرطه وتشكله".

ومن هنا يأتي خطر العولمة الثقافية التي تتجاوز التعبير عن المقومات الثقافية للقرية الكونية، إلى تهديد مصائر اللغات القومية أو الألسنة التي هي عصب الانصهار الاجتماعي والتجانس القومي،" فاللغة تجعل من الأمة الناطقة بها كلاً متراصاً خاضعاً لقوانين" كما يقول الفيلسوف الألماني فيخته، هذا فضلاً عن كونها ثروةً بشريةًمليئة بالأسرار وكنزاً ثميناً حقيقاً بالحماية، الأمر الذي وضع مسألة المحافظة على الهوية الثقافية في وجه العولمة، موضع جدل واهتمام خاص لدى اللغويين، من منطلق التسليم بأن اللغة هي التي ترسم خارطة الثقافة وتؤسس للهوية، فمنذ أن قال فيخته: إن " الأمة هي جماعة تتكلم لغة أصلية واحدة"، أصبحت الأمة تعرّف باللغة واللغة تعرّف بالأمة، وقد تبين من ذلك أن كل ما يمس اللغة القومية من نكسات، يهد من كيان الإنسان ومن كرامته، والعكس صحيح.

إن وحدة اللسان هي الضامن لوحدة الرأي والشعور وتآلف أنماط التفكير على مستوى أفراد الجماعة اللسانية الواحدة، كما أن أبناء اللغة المعينة يكونون في العادة أقدر على الوصول إلى مكنوناتها وأقرب إلى التآلف مع روحها، إنتاجاً واستيعاباً، وذلك لاشتمالها على تاريخ أمتهم وثقافتها وأدبها ورموزها وأساطيرها وتراثها الفكري، ولتعبيرها بواسطة صيغها اللفظية وانتظاماتها البنيوية عن قيمهم المشتركة، ولوجود حالة من التناظر الجدلي بين شبكة توزيع المعنى في كل لغةعلى حدة، وبين شبكة توزيع الخبرة الإنسانية في العالم الواقعي لدى أفراد أمتها، ذلك أن كل لغة كما يقول هيردر: " تحمل الانطباعات التي تميز ظروف المجتمعات وهويتهم المتميزة منذ أن تفرقت القبائل البشرية".

إن الثمن الباهظ للعولمة الثقافية إذن، هو ترك باب اللغة مفتوحا أمام النموذج الوافد الذي يعمل على تدمير الهويات ومحو الفوارق بين الشعوب ليصبح كل شيء بالتدريج متشابها، انسياقاً وراء قولة شومان التحذيرية: "اللغة ميكروب سريع الانتشار في تجزئة العالم".

ومما يجدر ذكره ههنا، أن عولمة اللغة لا تعني حصرا وبالضرورة تغيير ألسنة الشعوب؛ ذلك أمر بعيد. عولمة اللغة قد تتحقق من خلال شيوع بعض الممارسات التعبيرية الوافدة التي تعد جزءا من تقنية التعبير الاجتماعي والثقافي لبعض المجتمعات الغربية، وكذلك استخدام الأشكال والأجناس الاتصالية التي جرى تطويرها في وسائل الإعلام الغربية، وغير ذلك من الأساليب والتعبيرات وحتى التسميات والمصطلحات التي يجري نقلها بألفاظها أو بواسطة الترجمة التي يمكن أن تتحول هنا إلى سلاح ذي حدين.

 

حالة العربية

كانت العربية دائما لغة عالمية منذ أن نزل بها كلام الله عز وجل إلى الناس كافة، وقد تعززت مكانتها مع انتشار الإسلام ونبوغ العرب والمسلمين في شتى مجالات المعرفة والعلوم، حتى استطاعت في فترة من فترات زهوها أن تصبح لغة العلم والمخترعات في التكنولوجيا والطب والتشريح والفلك والجغرافيا والهندسة والرياضيات والمنطق والكيمياء والموسيقى والاجتماعيات واللغويات...، وقد قال المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون"إن العربية من أنقى اللغات فقد تفردت في طريق التعبير العلمي والفني والصوفي... وهي التي أدخلت إلى الغرب طريقة التعبير العلمي".

ولقد كانت العربية هي اللغة العالمية في حضارات العصور الوسطى، وكانت رافداً عظيماً للإنكليزيةفي نهضتها وكثيرٍ من اللغات الأوربيّات كما أشار إلى ذلك مؤلف كتاب "قصة اللغات": ماريو بِلْ. وقد أورد قاموس (Littre) قوائمَ بما اقتبسته هذه اللغات من مفرداتٍ عربيةٍ تقدر بالآلاف، وفي صدارتها الإسبانية ثم الفرنسية والإيطالية واليونانية والمجرية وكذلك الأرمنية والروسية وغيرها، ومجموعها سبع وعشرون لغة.

ومع ذلك، فقد كانت العربية مرشحة لأن تشهد مصيرا مشابها لمصير اللغة اللاتينية ومختلف اللغات القديمة كالآرامية والعبرية والتوراتية واليونانية المشتركة والفهلوية والسنسكريتية والصينية الكلاسيكية، التي انتهت كلغات حية مع صعود الإمبراطوريات الأوربية الحديثة التي شكلت تحديا كبيرا لمختلف لغات العالم وثقافاته، باستثناء اللغة العربية التي وجدت فيها هذه الإمبراطوريات أقواتها واستمدت منها أسباب نهضتها، ومن ثم لم يكن باستطاعتها القضاء عليها. وقد منحت هذه الوضعية فرصة كافية للغة العربية للاستقواء من المد الأوربي بدلا من أن تصبح فريسة له، مستفيدة من عوامل التقنية والصناعة والأيديولوجيا والسياسة والنشاط الاستشراقي والترجمة والتنافس الأوربي.

إن العربية اليوم هي إحدى اللغات الرسمية المعتمدة في المنظومة الدولية، وتحتل المرتبة الرابعة باعتبار مجمل معايير الترتيب العالمي للألسنة، متقدمة على كل اللغات الأوربية باستثناء الإنكليزية، كما أنَّهامن بين اللغات الست التي يعرف الناطقون بها تزايدًا ديموغرافيًّا أكثرمن غيرها، وهي أقدم لغة حية مكتوبة على وجه الأرض، ويعتمد عليها عدد من اللغات في نظام الكتابة، كما أن الأرقام العربية هي المستخدمة إلى اليوم على نطاق العالم، بدءاً من الرمز المدهش: الصفر، الذي ابتكره عالم الرياضيات ورائدها: الخوارزمي، محمد بن موسى (ت232 هـ)، ولا يزال يحمل التسمية العربية في اللغة الإيطالية (cypher)، كما يعرف علم الحساب مثلا بالجبر من عنوان كتابه (الجبر والمقابلة).

وبفضل الانتشار الواسع للغة العربية، وحاجة العالم إليها، والإقبال المتزايد على تعلمها في جامعات أوربا وأميركا وآسيا بسبب جاذبيتها وتأثيرها في جل لغات العالم، وبفضل قابليتها المتعاظمة للاستخدام في الأنظمة الرقمية، إلى جانب ثرائها المعجمي ومرونتها الصرفية والنحوية والأسلوبية، وقدرة نظامها الكتابي على تمثيل نظامها الصوتي بكفاءة لا تضاهى، وطواعيتها لاقتراض الألفاظ الأجنبية، علاوة على القيمة الاستثنائية لتراثها الأدبي والحضاري الإنساني، فإنها ستظل قادرة على الصمود لقرون عدة أخرى كلغة منافسة، اعتماداً على عوامل القوة الذاتية فقط، ودون الحاجة إلى دعم رسمي.

وفي هذا الصدد فإن ثمة بعض المزايا الإيجابية التي تتيحها العولمة ذاتها، وبإمكان أهل اللغة العربية كل من موقعه، أن يستعينوا بها دون أن يكلفهم ذلك شيئا يذكر، زيادة في صلابة جدار اللغة لصد أي تهديد قد تشكله العولمة اللغوية على المجتمع وهويته وتماسكه وانتمائه الحضاري. ومن ذلك مثلا:

1.       تحويل اللغة العربية إلى سلعة قابلة للتسويق من خلال تشجيع البحث العلمي بها، وتوجيه الباحثين إليها، وربطها بمنافع مادية لمتعلميها كالأفضلية في التشغيل مثلا.

2.       تنشيط حركة الترجمة إلى اللغة العربية لإغناء مصادرها بالنظريات والمصطلحات العلمية المستجدة.

3.       تيسير تعلم اللغة العربية وتسهيل قواعدها وطرق تدريسها.

4.       الاستمرار دون كلل في محاربة استخدام اللهجات في وسائل الإعلام وقاعات التدريس.

5.       الإسهام في إنتاج المصطلحات العلمية بالعربية مع ما يقتضيه من تطوير البحث والابتكار.

6.       الإسهام في تسمية الماركات بالعربية مع ما يقتضيه من اعتماد العربية في التصنيع والتعامل التجاري.

7.       الحرص على نقل الصيغ والأشكال التعبيرية العربية إلى اللغات الأخرى بالاستخدام، واقتراض الألفاظ العالمية منها.

8.       اشتراط خاصية دعم اللغة العربية عند اقتناء الأجهزة والبرمجيات الحديثة.

9.       تطوير المحتوى العربي على الإنترنت والرفع من جودته ومصداقيته العلمية.

10.   تشجيع جهود الترجمة الآلية بين العربية وغيرها.

11.   تشجيع جهود الهندسة اللغوية في اتجاه اللغة العربية.

12.   تشجيع جهود المدرسة الإلكترونية لتعليم اللغة العربية.

13.   استغلال البريد الإلكتروني ومواقع التواصل والبث الفضائي وحتى التلفاز لترويج اللغة العربية وجذب الانتباه إليها.

14.   الامتناع عن التخاطب مع متكلمي العربية بأية لغة أخرى لاسيما تلك التي تشكل تهديداً أو مزاحمة للغة العربية في عقر دارها.

15.   تشجيع الأطفال على التحدث بالعربية الفصيحة وحفظ نصوصها الجيدة.

16.   حماية اللهجات العربية وتحصينها بوصفها وجها للسان العربي من زحف الألفاظ والتعبيرات الوافدة والغريبة.

17.   دعم جهود اعتماد العربية لغة للتدريس خاصة في التعليم الأساسي وما قبل المدرسي.

18.   السعي إلى سن القوانين اللازمة لحماية اللغة العربية وفرض احترامها.

           

من الجيد أننا نملك ثقافة محصنة بلغة قوية، ولغة محصنة بثقافة قوية. لكننا لن نكون في مأمن من شبح العولمة الثقافية ما لم نطور العربية بالعلم ونطور العلم بالعربية.

 

*****

د. المختار الجيلاني / أستاذ اللسانيات وعلم النص المحاضر بجامعة انواكشوط العصرية.