ارتسامات حول نواة الحضارة العربية الإسلامية.. في فلسفة اللغة والفكر/ الدكتور محمد أحظانا. كاتب ومفكر موريتاني.

ثلاثاء, 12/26/2017 - 08:15
الدكتور محمد احظانا

 

إثارة

نعيش في الفضاء العربي اليوم ظروفا غير عادية من حيث الوقائع، ولذا علينا أن نفكر تفكيرا "غير عادي. والتفكير غير العادي يبدأ بطرح السؤال غير العادي. وإسهاما في تجسيد الأسئلة غير المعتادة أود أن أطرح سؤالا في أسس نشأة أوليات الفكر العربي الإسلامي. هذا السؤال يتعلق بإحداثيات تكوين النواة الفكرية للحضارة العربية الإسلامية.

لعل سؤال التكوين يفيدنا في توضيح الرؤى الناظمة لعقلنا الضمني الذي انبنى على أساسه عقلنا الصريح. السؤال هو:

ما هي النواة التي نشأ عليها صرح الحضارة العربية الإسلامية بجميع تشكيلاتها المعرفية والقيمية؟

قد يبدو السؤال طموحا أكثر من المعتاد. وقد يبدو أوسع من أي إجابة حصرية إلا أنه سؤال قد يثير بعض الاهتمام في النظر إلى أولياتنا الفكرية التي يجب أن ننظر إليها كلما وجدنا أنفسنا في سياق ارتباك فكري مستحكم.

ما سأساهم به هنا في توضيح هذا السؤال وتحديد وجهته التي سقتها في إطار الدعوة إلى التفكير لبعض الوقت في كلياتنا الفكرية عل ذلك يقودنا لاحقا إلى رفع بعض الردم المعرفي الاستنتاجي عن أسس البناء الأصلي، حتى نتبين المنطلقات، لنسعى لاحقا إلى البناء عليها بناء معرفي الطابع لا أيديولوجية. إذ ثمة محاولات عديدة للبناء الأيديولوجي الركامي. ورغم زخم بعضه إلا أنه احتفظ بخاصية البناء على الركام الفكري التأويلي دون رفع الأنقاض السابقة.

العنوان الأول: "توضيح إحداثيات السؤال

يمكن أن نحدد مكونتين أساسيتين و ذريتين للحضارة العربية الإسلامية هما: عقل اللغة العربية كلغة طبيعية كسائر أخواتها من الفصيلة السامية، من جهة، والبنية الفكرية لرؤية الكون كما تضمنتها الرسالة الإسلامية السماوية، من جهة أخرى.

وكما توحدت الرؤية في النصوص السماوية السابقة (التوراة والإنجيل) مع العبرية والإرامية على التوالي، كذلك انصهرت في القرآن الكريم رؤية الكون في مضمون الرسالة مع العقل الناظم للغة العربية، بجميع مظاهر هذا العقل الذي يشتمل على تصورات معقدة للعلاقات بين المصطلحات، والمفاهيم والدلالات، والأشكال والأنساق، التي لا تقع تحت الحصر إلا عندما ننظر إليها في كليتها.

وما دمنا بصدد توضيح ماذا نعني بسؤالنا النووي؟ فإن الأمر يتعلق بمكونين ربطت بينهما علاقات عميقة بالمعنى الجوهري للعمق.

وسنضرب أمثلة على هذا الانصهار العميق بين بنية العقل العربي الضمني الذي كشفت منه أبعاد وربما بقيت أبعاد لا تزال ضمنية على ما أعتقد، و بين مضامين وبنيات الرسالة السماوية التي لا تزال بها متضمنات تتجدد بتجدد المعارف البشرية، وتطور فهم أبعاد الإنسان والكون المحيط به.

العنوان الثاني: تشكيلات محورية في النواة الحضارية العربية الإسلامية

نحن معنيين في هذه المقاربات التوضيحية حول النواة الحضارية الإسلامية العربية بتحديد مفاصل أو مدارات الانصهار الأصلية أو ما بدا لنا أنه كذلك.

 

أولا: من جهة مكون اللغة

لا جدال في أن الرسالة السماوية وردت (بلسان عربي مبين) كما جاء في القرآن الكريم. والإبانة لا يمكن أن تقصر في أيامنا هذه وفي زمننا المعرفي على الإبانة اللفظية، وإنما يجب أن تتوسع مشمولاتها إلى الإبانة الذهنية الفكرية والوجدانية وغيرها من الإبانات. وثمة قرائن عديدة على قصد هذا الجنس من الإبانة في التنزيل، وقصد هذا النوع من الإبلاغ (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟) والتدبر تدبر في الفحوى، لكن في المبنى ضرورة، من باب الانطلاق من وحدة المعنى والمبنى في مجمل رؤيتنا للكون، كما بدأ لي في أكثر من مظهر حضاري ثقافي عربي إسلامي.

لو نظرنا إلى الأنساق اللغوية العربية في تصورها للسببيات مثلا وهو مبحث محوري، للاحظنا أنها تتألف من أربعة أنساق:

 _1نسق يثبت السبب والمسبب بفتح سواء كان مطلقا أو مقيدا ويهمل المسبب بكسر. وهذا النسق يمكن أن يدعى في اللغة مهمل الفاعل أصلا. ومن أمثلته:جن الرجل جنونا.. وغيرها قليل.

_2 النسق الثاني لإحداثيات فهم السببية هو ما يثبت المسبب بكسر والسبب  ويهمل المسبب بفتح، إذا كان مقيدا ويثبته إذا كان مطلقا. مثالها: جلس الرجل جلوسا.

 _3النسق الذي يثبت المسببين بكسر والسبب والمسبب المطلق إضافة لمسببين (بالفتح) مقيدين. ومثاله في التطبيق اللغوي: تفاخر الرجلان تفاخرا. وميزة هذا النسق السببي أن المسبب بكسر هو في نفس الوقت مسبب بفتح لأنه ينجز السبب ويجري عليه في نفس الوقت. وهو يختلف عن النسق الذي قبله بأن المسبب بكسر يجري الفعل على نفسه في ذلك أما هنا فإنه يجري السبب على نظيره. وهذا النسق الأخير هو نسق التفاعل السببي.

_4نسق يثبت المسبب بالكسر والسبب والمسبب بالفتح سواء كان مقيدا أو مطلقا. وتطبيقه اللغوي هو: سمع الإنسان صوتا سماعا.

هذه البنيات الأربع هي أنساق فهم السلاسل السببية المنصورة في العقل الناظم لنواة اللغة العربية. ولا علم لي ببنية أخرى، أو نسق لفهم أي صيغة سببية في العربية غير هذه الأنساق مع صعوبة وجرأة التعميم في مسألة بالغة التعقيد كهذه. لكن هذا ما أوصلني إليه النظر إلى أن يضيف مضيف نسقا آخر أستفيده . وعموما فإن الأنساق الأصلية لفهم السببيات ليست بتلك الكثرة رغم كثرة تطبيقها على المتماثلات الذهنية، لكونها نماذج إدراك لتطبيقات جزئية لا تكاد تقع تحت الحصر.

لكن ما هي العلاقة بين المسبب بكسر والسبب والمسبب بفتح؟

إن السبب في اللغة العربية حقيقة هو الفعل. وهذا السبب يملك التأثير الكافي لإنجاز تأثيره في المسببات بفتح، وتدعى المفاعيل في اصطلاح النحاة.

أما المسبب بكسر فيملك القدرة الكافية لإنجاز السبب. لذا فإن حالة ما قبل الإنجاز لا تسمى سببا إلا باعتبار ما سيكون لا باعتبار ما هو كائن. وعليه فإن أي فعل غير متحقق لا يعتبر سببا بعد. و من ثم يمكن التعبير عن  السبب في اللغة بالفعل المتحقق بالماضي. أما الأمر والمضارع فهما سببان بالقوة لا بالفعل. واعتبارهما فعلين هو من باب الممكن تصورا (قابلية تحقق).

وبناء على هذا تقتصر العلاقة السببية الأصلية بين المسبب بالكسر والسبب على العلاقة بين الفاعل الكافي و الفعل المتحقق.

ولذا سنقتصر على هذا المحور الثنائي الأطراف ضمن العلاقة السببية الجوهرية كما حددها العقل  الضمني للغة العربية، في تأسيس سببيته.

ما هي بنية السبب؟

تتشكل بنية السبب كما يحددها العقل الضمني للغة العربية كما بدأ لنا، من حركة إحداثية أو فاعلية، و زمن إنجاز، ثم إبداع ما لتحقيق كينونة كافية للإيجاد (الخلق) .

فالفاعلية هي دالة الحركة المكونة (بكسر). أما الزمن فهو الانات المتتالية للفاعلية. وأما الكينونة فهي تشكل معين يختلف عن غيره تصورا ووجودا.

وإذا سمح اللغويون وفلاسفة المعرفة سمينا هذه الكينونة تسمية اصطلاحية فقلنا إنها: الضربية في فعل: ضرب والظنية في فعل ظن.. إلى آخره.. سواء دل الفعل على متعين أو تحيز أو حال.. وجودا.

فالحدثية المبتدعة هي تشكيل ناجم عن جريان الفاعلية أثناء تحقيق وجود ما.

هذه هي الثلاثية التي قادنا إليه فحص مكونات بنية السبب في العقل الضمني للغة العربية. ويعني ذلك بعبارة مجملة أن الفعل مرادف للإبداع. فإذا لم تتحقق فيه هذه الصفة فهو( لا فعل) بالمعنى الجوهري.

كيف تجسد اللغة العربية سببيتها؟

هنا لا بد لنا أن نركز نظرنا على بنية السبب (الفعل المتحقق) لأنه هو الذي يخلع صفة السببية على المسبب بكسر (الفاعل) ، الذي هو ليس مسببا قبل اكتمال بناء السبب (ليس الكائن فاعلا قبل إنجاز فعله(ليس الرجل ضاربا قبل فعل الضرب، وليس ظانا قبل فعل الظن).

جسدت اللغة العربية  أو عقلها الضمني على الأصح، العلاقة بين السبب (الفعل) والمسبب (الفاعل) في وضعين على الأقل: وضع الاستظهار ووضع الاستبطان.

فأما وضع الاستظهار فهو أن يرمز للفاعلية بدال ما زائد على البنية الذرية للفعل المتحقق: جلسا، جلسنا، جلسوا، جلستم...

أما وضع الاستبطان فهو أن لا يظهر دال منطوق أو مرموز خارج البنية الذرية للفعل المتحقق:جلس. وهنا يتضمن الفاعل في فعله أو يضمر، حالة واحدة وفريدة: حالة الارتباط بالمسبب الغائب المفرد المذكر فقط. أما تجريد الفعل في حالة الإسناد للاثنين أو للجمع أن خطر ببالنا فهو فرع لأن بعض اللغات لا تجرده أكلوني البراغيث. وهو على كل حال فرع لأصل لأن الإفراد أصل والتثنية والجمع فرعان.

إذا وصلنا إلى هذا المقام فإننا نستطيع أن نحدد قاعدة السببية في العقل الضمني العربي ضمن علاقة الفعل المتحقق بضمير الغائب المفرد المذكر المستتر في فعله أصلا. وهو الفاعل اللصيق بفعله حتما.

وهنا نتوقف مؤقتا  عن بنية السببية في العقل الضمني للغة العربية، ونثبر مسألة السببية في المكون الثاني للحضارة العربية الإسلامية من حيث الأنساق (رؤية الكون).

ثانيا:

رؤية السببية في الإسلام

لا نعني هنا ما عناه أساتذة كبار  بشأن تمظهرات الخطاب الإسلامي بعد نظريات التأويل قديمها وتحديثها، لأننا بصدد الحديث عن كلية نظيرة لما رأيناه بشأن اللغة العربية وعقلها الناظم لفهم السببية.

إننا سنعنى هنا بمفاهيم مثل مفهوم الخلق من عدم الذي هو ثابتة إسلامية، ومفهوم الفعل المؤثر الذي هو تصريف الأكوان و الكائنات، بعد إبداعها على غير مثال سابق.

1-بشأن المسبب بالكسر: تسلم الرسالة السماوية الإسلامية تسليما كليا بأن الله هو مبدع الكون وهو المتصرف فيه بعد إيجاده.

2_أن قدرته على الخلق غير منقوصة بل كاملة.

3-أن قدرته على التصرف في الكون كاملة.

4-ويعني هذا أن المسبب للخلق والتصرف (هو الله الخالق البارئ المصور.) وهو (يدبر الأمر). متصف بصفات القدم والقدرة والإرادة والفعل والوحدانية والغيبة... إلى غير ذلك من صفات الذات والأفعال..

5-إذن، المسبب بكسر الباء هو الله جل جلاله. والسبب هو: خلق، وتصرف.

6-المسبب بفتح هو المخلوق المطلق من عدم، أو المتصرف فيه بعد إيجاده.

العنوان الثاني:

لواحم المكونتين الذريتين للحضارة العربية الإسلامية

أولا: لقد تحدثنا عن أربع بنيات أو أنساق لتصور المتتالية السببية في العقل الضمني الناظم للغة العربية.

-نسق ما أهمل ذكر مسببه (ما لا فاعل)، ويشمل أفعالا قليلة ذكرنا أمثلة منها.

هذا النسق يتناقض مع رؤية الإسلام جوهريا السببية، ولهذا لم يكن ضمن دائرة الاستخدام خلال الالتحام بين عقل اللغة الضمني وفحوى الإسلام ورؤيته للكون والسبب، إذ هو فهم منقوص لثلاثية السببية. وبالتالي فهو يخدم الرؤية الوثنية التي يحاربها الإسلام، ولذا اختلق النحاة المسلمون لقب نائب الفاعل للمفعول به الذي لا فاعل له أصلا لتسليمها العقدي بأن لا فعل إلا وله فاعل، لا بناء على حقيقة لغوية لأن النيابة عن الفاعل هنا من باب إعراب المحل لا إعراب الوظيفة، والرفع فيه للكفاية، أما الدلالة فهي على المفعولية وظيفيا.

7- تشاكل الإسلام في رؤيته السلاسل السببية مع الأنساق الثلاثة الأخرى، فاستخدم أكملها لتكريس رؤيته للكون، وهي تطابقه بفطرتها، فالفاعل لغة هو الله إسلاميا، والفعل لغة هو الخلق والتقدير إسلاميا، والمفعول به أو المطلق لغة هو تصريف الكائنات أو خلقها من عدم.

8- يبقى أن نذكر أن نسق التفاعل في اللغة هو نسق ما يجري بين اثنين في الممارسة الفقهية ضمن العبادات المتعدية كالزكاة والصدقة والمعاملة بمختلف مظاهرها.

9-أما حتمية اقتران ضمير الغائب المفرد: هو، بفعله المتحقق في اللغة، فإن تشكلها في الرؤية الإسلامية واضح من خلال وجود فاعل واحد وراء كل الأفعال وهو الله.

10-إذن نحن أمام لحمة عميقة بين العقل الضمني للغة العربية ورؤية الإسلام كما جاءت في الرسالة السماوية. هذا الالتحام قد يجد مسوغه في الفطرة التي فطر الله عليها العقل الناظم للغات الرسالات السماوية (العبرية، الارامية، والعربية) لتتنزل بها الديانات التوحيدية (الموسوية، المسيحية، والمحمدية).

وهذه اللغات بالمناسبة من نفس العائلة السامية.

العنوان الثالث: مترتبات

قد يترتب على هذه الاستنتاجات بعض النتائج لعل أهمها:

إعطاء بعد أعمق للاصطفاء وسلامة الفطرة.. بموافقة لغات بعينها للتوحيد.

سيجعل هذا المعطى كلا من مظاهر عدم التوحيد المسجلة تاريخيا كعقيدة عبادة العجل في الموسوية، وعقيدة التثليث في المسيحية، ووثنية العرب في الإبراهيمية، أمورا طارئة على متضمنات العقل الفطري لأمم الرسالات التوحيدية.

هذا إذا سلمنا بحقيقة وحدة أو تشاكل العقل الضمني للغات السامية الثلاث.

كذلك قد يترتب علي هذه الاستنتاجات التشكيك في بعض التصورات الحديثة كما في رؤية بعض المستشرقين، وما ذهب إليه أستاذي الجليل المرحوم د. محمد عابد الجابري بخصوص النظام البياني، وخضوعه للتجاور واللاحتمية.. وقد لاحظت قبل اليوم أن الجابري لو كان قد نظر إلى العقل العربي الضمني من خلال الجملة النحوية والنسق لاستنتج حتميته، وخضوعه لنسقية صارمة، كما رأينا في تحليل مكونات النواة الحضارية العربية الإسلامية آنفا، لكنه حلل هذا العقل بناء على معطى اللفظ المعجمي، والدلالة والبلاغة البيانية، ومبدأ المجاز. ولم يستخدم علم المعاني كحقل تنظير ابستمولوجي، وهو ما كان سينقله ذهنيا إلى الأساليب، ومن ثم إلى الأنساق النحوية، من جمل وفاعليات ناظمة لها، ليخلص من ثم إلى سببية لا تخطئها العين، في عمق النواة الذرية للعقل العربي الإسلامي قبل تبني ما أسماه الدكتور الجابري بالنظام البرهاني المسؤول عنده عن إدخال السببية و النسقية في الفكر العربي الإسلامي.

وهو ما لم نصل إليه من خلال مقارباتنا هذه.

فالنسبية كامنة في نواة هذه الحضارة أصلا. ولولاها لا استحاول الاعتقاد بوجود مسبب للكون ضرورة، وانعدمت الجملة الفعلية في اللغة العربية.

 

أخيرا

أرجو أن أكون قد وضحت وجهة سؤالي حول البنية الذرية للحضارة العربية في فهم النسق والسببية من منطلقات قائمة تشهد على الانصهار الحضاري في هذه النواة.