من الجلي أن تعدية أثرى أسلوب شائع اليوم وإن كان غير أصيل، فقد أوردتها المعاجم القديمة لازمة غير متعدية. وكذلك وردت في نصوص كثيرة، مما يستشهد به أو يستأنس؛ فقد جاء في حديث أخرجه عدد من أصحاب السنن عن صخر الغامدي قول الراوي عنه: " كان صخر رجلا تاجرا فكان يبعث غلمانه من أول النهار فكثر ماله وأثرى"، أو "فأثرى وكثر ماله". وفي أثر أخرجه ابن أبي شيبة: "بلغ عمر بن الخطاب أن رجلا أثرى من بيع الخمر فقال اكسروا كل آنية له وسيروا كل ماشية له".
ومن ذلك قول النابغة:
وكل فتى وإن أثرى وأمشى
ستخلجه عن الدنيا منون
يعني بأثرى كثر ثراؤه أي ماله وبأمشى كثرت ماشيته.
ومن الشعر المنسوب إلى حاتم الطائي:
إذا المرء أثرى ثم لم يك ماله ... نوالا لدى البؤسى فحالفه العسرُ
فأعط ولا تمسك مخافة فاقة ... وإنَّ وراءَ العسر إن خفته اليسرُ
ومما ينسب إلى حسان بن ثابت رضي اللـه عنه:
باهى ابن صقعب، إذ أثرى ، بكلبته
قل لابن صقعب أخف الشخص واكتتم
ولأبي نواس:
يا قهوةً حرمتْ إلا على رجلٍ
أثرى ، فأتلف فيها المال والنشبا
ولإبراهيم بن العباس:
يعرف الأبعد إن أثرى ولا
يعرف الأدنى إذا ما افتقرا
وللبحتري:
وذي ثقة تبدل حين أثرى،
ومن شيمي مراقبة الثقات
وله:
نفى الجور بالعدل المبين فأصبحت
معاهده لم يبق إلا محيلها
فأثرى به من بعد بؤس عديمها
وعز به من بعد خوف ذليلها
ولعبد الغفار الأخرس:
سواء إذا أثرى وأملق جوده
جواد على الحالين في العسر واليسر
وللسري الرفاء:
تعزيتُ عن نيل الثراء بفضلِه
وما معدم أثرى من الفضل مُعدِم.
وفي غريب الحديث للخطابي نقلا عن ثعلب:
إذا المرء أثرى ثم قال لقومه
أنا السيد المفضى إليه المعمم
ولم يعطهم مالا أبوا أن يسودهم
وهان عليهم فقده وهو أظلم.
ومما ورد في أمالي الزجاجي:
أرى كلّ من أثري يرى ذا مهابةٍ
وإن كان مذموماً لئيماً نقائبه
ومن يفتقر يدع الفقير ويمتهن
غريباً ويبغض إن تراه أقاربه
ويرمى كما ذو العرّ يرمى ويتّقى
ويجنى ذنوباً كلها هو عائبه.
وقال آخر:
أجود بمالي دون عرضي، ومن يُرد
رزية عِرْضي يعترضْ دونه البخلُ
إذا المرء أثرى ثم ضنّ بماله
أبى الناس يوما أن يكون له الفضلُ
في تلك النصوص كلها، وأشباهُها كثر، وردت أثرى لازمة غير متعدية. وقد أوردنا منها ما يفيض عن محل الاستشهاد، طلبا لاكتمال المعنى المقصود، وتتميما للفائدة.
ومع ذلك فقد يكون لاستعمالها متعدية وجهان، وإن لم يسعف في ذلك السماع في عصور الاستشهاد أو عند أئمة اللغة: أحدهما عام والآخر خاص بالتركيب الإضافي. أما العام فهو ما يوحي به ورود الثلاثي لازما بالمعنى ذاته (ثرى فلان: كثر ثراؤه) من جواز تعديته بالهمز قياسا. فهل يسوغ من هذا الوجه إلحاقه بالرباعي الذي يرد لازما ومتعديا مثل أبعد وأبان وأثوى وأخطأ وأخلق (أخلق الثوبُ وأخلقته) وأضاء وأعيا وأفلت وآوى وأظلم عند بعضهم؟ ولها نظائر جمة في المجرد وأبواب أخرى من المزيد.
أما الوجه الخاص بالتركيب الإضافي في مثل قولنا (إثراء الموضوع) فهو اعتبار المضاف إليه فاعلا للمصدر لا مفعولا به، على تقدير: من أجل أن يُثرِي الموضوعُ، أي يَغْنَى بمزيد البيان والتوضيح والتفصيل. وحينئذ تكون أثرى في التركيب المذكور على بابها لازمة غير متعدية.
ثم إن استعمال أثرى متعدية ليس استعمالا محدثا يتحمل المتأخرون والمعاصرون خاصة تبعة إحداثه، وإنما هو مولد، فقد وقفت على "أثرى" متعدية في قول ابن زمرك الأندلسي (ت 795ه):
ألا كل من صلى وضحى ومن دعا
ومد يديه ضارعا متوسلا
وجودك شرط في حصول قبوله
وجودك أثرى كفَّه فتنفلا
ولا يعفينا ذلك، أهل هذا العصر، من ابتغاء الفصيح أو الأفصح، فإن توخيناه وتورعنا عن التأول للأساليب الشائعة، كان علينا إذا استعملنا "أثرى" فِعْلا، أن نعملها لازمة لا متعدية لتبقى على بابها. وكان لنا، إذا طلبنا مفعولا به لفعل من نفس الجذر، أن نستعمل "ثرى" (من باب فعَل)، فنقول مثلا: إن كلمة زيد ثرت الندوةَ أو النقاشَ، تَثريها بفتح تاء المضارعة لا بضمها، خلافا للشائع اليوم. وكان لنا أن نستخدم المصدر من هذا الفعل المجرد (ثراء) في التركيب الإضافي بتقديرين، أحدهما اعتبار "ثراء" مضافة إلى فاعلها، نظرا لاستعمالها لازمة (ثرى القوم كثروا)، والثاني اعتبارها مضافة إلى مفعولها باعتبارها متعدية بذاتها (ثرى اللـه القوم كثّرهم). ومن تمسك بغير ذلك جعلنا ابن زمرك سلفا له، استئناسا لا استشهادا.