استشكلتم أخي الكريم ما حقه، بادي الرأي، أن يستشكل وهو أن يكون حذر دون خوف. ولمحاولة تقريب الأمر، أقترح أن نعود إلى تعريفات العلماء للخوف، ثم نرتقي صعدا إلى نصوص الكتاب، لعلنا بالنظر فيها نتلمس طريقا لتوضيح هذا الأمر الذي يبدو حقا مشكلا.
للخوف تعاريف عديدة منها للعسكري - كما أسلفنا-: "توقع الضرر المشكوك في وقوعه"، وللجرجاني: "توقع حلول مكروه، أو فوات محبوب"، وللتفتازاني: "غم يلحق الإنسان مما يتوقعه من السوء"، وللراغب الأصبهاني: "توقع مكروه عن إمارة مظنونة أو معلومة"، وللطوسي: " تألم النفس من العقاب المتوقع بسبب ارتكاب المنهيات، والتقصير في الطاعات"، ولأبي البقاء: "غم يلحق لتوقع المكروه"، ولابن الجوزي: "مجاهدة الأمر المخوف قبل وقوعه".
حين نتأمل هذه التعاريف نجد بينها رحما لا تخفى، لكننا نجد أيضا فروقا دقيقة، فإن العسكري والجرجاني والراغب جعلوا التوقع ذاته خوفا، بينما جعله التفتازاني وأبو البقاء والطوسي حالة نفسية تنتج عن التوقع، لا التوقع ذاته. أما ابن الجوزي فجعله ما يحمل عليه توقع المكروه من التصرف المناسب لاتقائه، فذلك معنى المجاهدة. وبعبارة أخرى، فإن العسكري والجرجاني والراغب تكلموا عن السبب، والتفتازاني وأبا البقاء والطوسي تكلموا عن النتيجة وابن الجوزي تكلم عن نتيجة النتيجة، فإن نتيجة أمر ما يمكن أن تكون بدورها سببا لغيره.
هنالك، إذن، سبب هو توقع المكروه؛ ونتيجة لذلك السبب هي الغمّ/ الخوف. وهناك ما يترتب عقلا وشرعا على هذه النتيجة فتصير به سببا لنتيجة أخرى هي المجاهدة.
وعند التأمل يظهر أن التفتازاني وأبا البقاء والطوسي كانوا أقرب إلى الدقة في تعريف الخوف، فقد نظروا إلى الحالة النفسية ذاتها بينما نظر آخرون إلى سببها ونظر غير هؤلاء وأولئك إلى نتيجتها، والحال أن توقع المكروه ليس بالضرورة خوفا في حد ذاته، وإنما هو سبب للخوف، كما أن المجاهدة ليست في ذاتها خوفا، بل هي أقرب إلى معنى الحذر الذي أسلفنا الكلام عنه، وقلنا إنه سلوك عملي مترتب على تلك الحالة النفسية المسماة الخوف، ونضيف أنه سلوك ينقل الخائف من حال الانفعال الصرف (الخوف) إلى حال الفعل الذي يقتضيه الانفعال (الحذر).
ومع ذلك فإنه مما يشفع للذين نظروا إلى السبب وإلى النتيجة أن العرب سمت المسبَّب باسم السبب، وسمت السبب باسم المسبَّب. ومثال ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى {سارعوا إلى مغفرة من ربكم}، وإنما قصد موجباتها من الأعمال الصالحات فسمى المسبّب باسم السبب (وإن كانت العلاقة السببية هنا رهينة فضل اللـه المحض، عند جمهور العلماء)، ومنه قوله تعالى {وأعتدت لهن متكأ} قالوا طعاما لأنه سبب للاتكاء، وقوله {وثبت أقدامنا} فسروا الأقدام بالقلوب بناء على أن ثبات القلوب سبب لثبات الأقدام، وقوله {تمنون الموت}، أي الجهاد في سبيل اللـه لأنه سبب له؛ وقوله {وجعلنا الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا}، فإن النهار سبب للإبصار؛ وقوله {وما كان اللـه ليضيع إيمانكم}، أي صلاتكم فإنه سبب لها. ومن ذلك قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم
رعيناه ولو كانوا غضابا
فإنهم إنما يرعون النبات، والسماء (المطر) سببه وإن في الظاهر.
استرسلنا قليلا في هذه الأمثلة لنلتمس العذر للأعلام الأجلة في تسميتهم التوقع خوفا وتسميتهم ما يترتب على الخوف خوفا. لكن، فيم يخدم ذلك غرضنا من الرد على الاستشكال الوارد؟
رغم أن تعريفات التفتازاني وأبي البقاء والطوسي تبدو أقرب إلى الدقة، فإن في تعريفات الجرجاني وأبي هلال والراغب الأصفهاني نكتة لطيفة يمكن أن نتخذها مدخلا لبيان إمكان انفكاك الخوف عن توقع المكروه وانفكاك الحذر عن الخوف.
لقد نبهنا أولئك العلماء – وإن من طرف خفي - بتركيزهم على السبب إلى جانب من هذا المعيار الذي نبحث عنه، ذلك أن حصول السبب لا يقتضي ضرورة حصول المسبَّب، فتوقع المكروه لا يقتضي ضرورة حصول حالة الإيحاش والاضطراب والترقب التي تقع عادة للخائف، ووقوع هذه الحالة، وفق العادة، عند توقع المكروه لا يقتضي بالضرورة اتخاذ الحيطة والحذر، فلا تلازم إلا بحكم العادة القابلة للانخرام عقلا ونقلا وتجربة. وهذا ما تشير إليه قاعدة "الأسباب غير لازمة"، التي تعني أنه حتى في حال حصول السبب فإن "المسبَّب قد يكون وقد لا يكون"، على حد قول الشاطبي في الموافقات. وإلى ذلك أشار أبو حيان في تفريقه بين العلة العقلية والعلة الشرعية باعتبارها سببا فإن من أوسع إطلاقات السبب أن يطلق على العلة الشرعية المكونة من مجموع مركب من المقتضي والشرط وانتفاء المانع ووجود الأهل والمحل، كما يقول. وقد سعى لضبط الفرق، فقال: "لَا شَكَّ أَنَّ الْعِلَلَ الْعَقْلِيَّةَ مُوجِبَةٌ لِوُجُودِ مَعْلُولِهَا كَمَا عُرِفَ مِنْ الْكَسْرِ لِلِانْكِسَارِ، وَسَائِرِ الْأَفْعَالِ مَعَ الِانْفِعَالَاتِ بِخِلَافِ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهَا وُجُودُ مُسَبَّبَاتِهَا". وهذا الشطر الأخير هو محل الشاهد، وإن كنا نعلم أن التعريف السائد للسبب في بساط الحكم الشرعي هو أنه "ما يلزم من وجوده الوجود (أي وجود الحكم الشرعي) ويلزم من عدمه العدم لذاته"، لكن كلامنا هنا ليس في السبب الشرعي، بل ولا في السبب العقلي، وإنما نتحدث عن السبب العادي، ولعل منه كثيرا مما اعتبره أبو حيان من الأسباب العقلية في تمثيله بالأفعال والانفعالات. كلامنا، إذن، هو عن السبب العادي الذي لا شية في قابلية مسبَّبه للتخلف، كما هو الشأن مثلا في اعتبار النكاح سببا للإنجاب، فإنه لا يخفى أن المسبَّب قد يتخلف، وإن حصل السبب. وهذا واقع بشأن توقع المكروه فإنه قد ينتج خوفا، وذلك غالب شأنه، وقد لا ينتجه. وليس هذا استنتاجا عقليا بحتا، وإنما هو أمر مشاهد بالتجربة، مروي بالتواتر، ويكفي التأمل فيما يزخر به ديوان العرب من لوحات رسمها الشعراء عن مواقف الإقدام في سوح الوغى، حتى إنهم ليصورونها وكأنها منتزهات. ومن أمثلة ذلك قول عنترة:
ولا تَذْكرا لي غيرَ خَيلٍ مُغيرة
ونقعْ غبارٍ حالك اللّون مسودّ
فإنّ غبارَ الصّافِنات إذا علا
نشقتُ لهُ ريحاً ألذَّ منَ النّدّ
وريحانتي رمحي وكاساتُ مجلسي
جماجمُ ساداتِ حراصٍ على المجد
وقول المتنبي يمدح سيف الدولة:
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح وثغرك باسم
ومن قبلهما قول كعب في أصحاب رسول اللـه صلى اللـه عليه وسلم:
في عصبةٍ من قريشٍ قال قائلهمْ
ببطنِ مكَّةَ لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاسٌ ولا كشفٌ
عندَ اللِّقاءِ ولا ميلٌ معازيلُ
ولنتذكر تلك المشية التي يبغضها اللـه إلا في ذلك الموطن، مشية أبي دجانة يوم أحد مختالا متبخترا، بين الصفين في ميدان القتال. والأمر أكثر من أن يحصر، ومحل الشاهد منه أن الشجاع يقبل في الحرب غير خائف ولا وجل، والحل أنها مظنة وقوع المكروه بطبيعة النفس البشرية، فإن قيل إن ذلك المكروه نسخته الرغبة في الشهادة عند المسلمين، لم يتأت أن نقول بمثل ذلك عند الشجعان من أهل الجاهلية ومن الأمم غير المسلمين بل ومن المشركين الذين أسلموا، وعرفوا بشجاعتهم في الجاهلية وفي الإسلام معا. وعلى كل، فإننا حين ننزع هوامش لابتغاء الشهادة والمجد وهوامش أخرى لبعض ما اعتاده الشعراء من المبالغة فلن نعدم فيما يبقى نماذج انفكاك بين توقع المكروه وبين الخوف. إنهم يتوقعون المكروه بطبيعة النفس البشرية، من الموت والجراح والخسائر المادية، لكنهم مع ذلك يقدمون إقدام غير الخائف. لكن تحررهم من هاجس الخوف لا يعني أنهم يتركون الحذر، إنهم يتخذون الحيطة من لبس الدروع واتخاذ التروس ومصاولة العدو لاتقاء بأسه، وليسوا حينئذ في حال خوف، وإن كانوا من عدوهم في غاية الحذر، إلا ما ندر في حق من كان همهم الأساس الموت، كما يفعل الاستشهاديون والانتحاريون اليوم.
ولنا في النقل الصريح شاهد على ما نقول، في الأمر والنهي وفي الإخبار بالواقع.
أما الأمر والنهي ففيما جاء من نهي اللـه عن الخوف وأمره بالحذر، وهو لا يأمر بمستحيل ولا يكلف بما لا يطاق. قال تعالى: {إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَٰنُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَآءَهُۥ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}، فنهى عن الخوف إلا من اللـه، وقال {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم}، وقال {وَأَطِيعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِيعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَٱحْذَرُوا۟}، فأمر بالحذر، فعلم أن الإنسان مخاطب بعدم الخوف إزاء توقع المكروه، وأن ذلك ممكن، إذ لو لم يكن ممكنا لما خوطب به {لا يكلف اللـه نفسا إلا وسعها}، وعلم أنه في نفس الوقت مخاطب باتخاذ الحيطة والحذر، حتى وإن لم يخف.
ومن أبلغ الآيات الدالة على أن الحذر غير متلازم مع الخوف، ضرورة، أن اللـه سبحانه لم يأمرنا بالحذر مما من شأنه أن يُخاف فقط، بل أمرنا كذلك بالحذر مما من شأنه أن يكون محبوبا. قال تعالى {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓا۟ إِنَّ مِنْ أَزْوَٰجِكُمْ وَأَوْلَٰدِكُمْ عَدُوًّۭا لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ}. لم يأمرنا بأن نخافهم، لأنه غرس فينا محبتهم بالفطرة والغريزة، لكنه أمرنا بأن نحذرهم.
أما في جانب الإخبار بالواقع فإن لنا شواهد في آيات عديدة أخبرنا اللـه فيها بأنه أنزل السكينة على رسوله وعلى المومنين في مواطن الخوف { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَيْهِ}، {فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُۥ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ}، {هو الذي أنزل السكينة في قلوب المومنين}، والسكينة تورث الطمأنينة والطمأنينة نقيض الخوف بشاهد قوله تعالى {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة} بعد قوله {إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا}، بل إن اللـه امتن على المومنين بغاية الأمنة وهم في ميدان القتال {إذ يغشيكم النعاس أمنة منه}، ومع ما تنزل من السكينة والأمنة وما وقع من النعاس، فإنهم كانوا يحذرون، كانوا يحملون أسلحتهم ويأخذون حذرهم. وهذا إخبار بواقع.
والسيرة النبوية العطرة نموذج عملي لهذه المعادلة العظيمة بين عدم الخوف واتخاذ الحذر؛ ذلك أنه صلى اللـه عليه وسلم كان يأخذ للحرب أهبتها وهو موعود بالنصر مؤيد من ربه، معصوم من الناس. ولم يكن ذلك فقط في الغزوات، وإنما كان في أحوال السلم حين كان يتخذ الحرس. وما اتخذ صلى اللـه عليه وسلم الحرس عن خوف، حاشاه، وإنما كان عن قيام بالأمر، فإنه مأمور باتقاء العدو كسائر أفراد أمته. وصرفه الحرس بعد نزول قوله تعالى {واللـه يعصمك من الناس} ينبغي حمله على أنه أمر ورد مورد الخبر، وهو أبلغ في أمره بترك الحرس، وإلا فإن العصمة كما هو معلوم ومقرر عند العلماء ليست على إطلاقها، فعلى القول بأن الآية مكية فإنه أعقبها حوادث كثيرة تعرض فيها صلى اللـه عليه وسلم للشجاج والجراح وكسرت رباعيته، وسحر صلى اللـه عليه وسلم. وعلى القول بأنها مدنية، فقد قيل أيضا بوقوع ذلك بعد نزولها. وعلى كل، فإن نزولها سبق وفاته صلى اللـه عليه وسلم متأثرا بالسم، كما ورد ذلك عن أمنا عائشة رضي اللـه عنها. ولعل من الحكمة في اتخاذ الحرس وصرفه أن نجد في سيرته صلى اللـه عليه وسلم ما نقتبس منه لأحوال شتى، المؤتلف فيه هو عدم الخوف من المكروه الدنيوي المتوقع، والمختلف هو مراعاة الحذر في مواطن (اتخاذ الحرس، واتخاذ عدة الحرب)، والتخفيف منه في مواطن (صرف الحرس). ولعل الضابط في ذلك الحذر في حال مواجهة العدو، والتخفيف من الإجراءات الأمنية المشددة في الأحوال العادية مثل ظروف الحياة الطبيعية في المدينة أو ظروف السفر حيث لا نِزال (حالة تعليق السيف والنوم تحت الشجرة). وفي ذلك ميزان قسط، وفيه شاهد لما أشرنا إليه من إمكان حصول الحذر دون مثير من خوف غريزي. أما الخوف من اللـه سبحانه فشأن آخر، والأصل فيه ألا ينفك عن الخشية والحذر.
واللـه أعلم.