دعه فإن "الخطأ المشهور خير من الصواب المهجور"..
ذاك هو لسان الحال والمقال لدى كثيرين؛ بعضهم يتخذه ذريعة واعتذارا عن تقصيره في قواعد اللسان العربي المبين.. وبعضهم يعتمد عليه في التوسعة على الكتّاب والخطباء ممن يكثرون من اللحن وينحرفون عن جادة الصراط العربي المستقيم.
لا ننكر أن مبتدع هذه المقولة، قد استطاع أن يضمن لها الخلود؛ بما تحمله من جرس موسيقي، وبما تتضمنه من بعض الحق الذي كثيرا ما يراد به الباطل؛ حيث قابل بين "المشهور" و"المهجور"؛ ليجعلنا تلقائيا في صف "المشهور".
فهل لهذه المقولة مصداقية تجعلها حجة مقبولة؟ أم أنها كلمة حق أريد بها باطل؟ أم إنها تحمل حقا وباطلا في الوقت نفسه؟
لعل أول من هاجم هذه المقولة، هو العلامة الحجة محمد محمود بن التلاميد "الشنقيطي"؛ في قصة له مع أحد أدباء المشرق؛ حيث نطق ذلك الأديب كلمة "تجارب" بضم الراء بدل كسرها!! في قول الشاعر:
وجربت ما جربت منه فسرني
ولا يكشف الفتيان غير التجارب
فأرشده الشيخ الشنقيطي إلى الصواب.. فتمنع الرجل؛ وحينها سأله الشيخ: هل يوجد في أوزان الجموع "تفاعُلٌ" بضم العين؟ فلما تبين له الخطأ لجأ إلى تلك المقولة السحرية.. لكن رد الشنقيطي كان صاعقا كعادته حين أجابه: "وهل يقول هذا عاقل؟!!" (انظر الرحلة السنية؛ ص: ١٠٦).
وحديثاً؛ نجد العلامة د. مازن المبارك، يحمل على المقولة حملة شعواء في كتابه (نحو وعي لغوي)؛ فيخصص لها فصلا بعنوان: (السخف المأثور في أن الخطأ المشهور خير من الصواب المهجور)، فيعدها من قبيل الأمثال المخالفة للمنطق والذوق السليم، نظير قولهم في امتداح التلصص: (حلال على الشاطر).. إلخ
وهنا نطرح السؤال: إذا كانت أخطاء من قبيل (التجرُبة والتجارُب) تستحق أن توصف بالسخف المأثور.. فهل ينطبق ذلك بالقدر نفسه على المولّد المأنوس والأخطاء التي استعملها العلماء وتدوولت في الكتب؛ حتى صارت مشهورة ومقابلها مهجورا؟؟ مثل (ذاتيّ) نسبة إلى (ذات)؛ لأن الصواب فيها: (ذووي) كما هو مبين في كتب الصرف.. لكن المؤلفين (خصوصا في العقائد) تتابعوا على هذا الاستعمال وهجروا ذلك!!
وهل ينطبق على كلمة (مضمون) إذا أريد بها (المحتوى)؟!! فقد هجر الأكثرون استعمال الصيغة الصحيحة وهي (المضمّن)؛ باستثناء أهل علم القراءات.
هنا ربما يفيدنا الرجوع إلى رأي العلامة "عدود" رحمه الله في مقدمة نظم المختصر؛ حيث يقول:
وربما استعملت لحنا اشتهر
كالغير والكل؛ اقتداءً بالنفر
إذ لا أرى في النحو لي مزيّهْ
على شيوخ النحو من غَزِيّهْ
ثم يعلق الشيخ على الأبيات بطرافته المعهودة: "كالغير والكل: يحتمل أن يكونا مثالين للحن المشتهر؛ لأنهما من الأسماء التي تأتي مفردة لفظا مما يضاف أبدا؛ فإدخال أل عليهما لحن؛ لنية الإضافة.. ويحتمل أن المراد: كغيري من المؤلفين، وككل المحْدَثين" (التسهيل والتكميل: ج١/ ص: ٣).
لعلنا نخرج من أبيات الشيخ عدود، بحلّ وسط يرضي الطرفين؛ فإذا أطلقت العبارة في مقام الاعتذار عن "الخطأ الشائع" الذي استعمله العلماء وجرى على ألسنتهم؛ كان لها حظ من النظر؛ فما نحن بالنسبة لهم إلا من غَزية (وحذار من ضم غينها).. أما إذا أطلقت العبارة في مقام التحجج للحن الناتج عن الجهل وضعف الاطلاع؛ فهي من "السخف المأثور" الذي "لا يقوله عاقل".
هذا مع الدعوة إلى إحياء الصواب المهجور، وفرضه في الاستعمال بطريقة يساعدها السياق ومقتضى الحال.
والله تعالى أعلم.