لمقاربة المعنى والسياق، وبيان العلاقة بينهما، يواجه مَسْعَى المُقارِب صعوبة المضي في محاولته، ما لم يُقِرَّ ـ في مُبْتدَى غايته ـ أنهما شيئان متعالقان تعالُق الإثبات والنفي في الوجود، تلازُما يقتضي أن لا وجود لأي منهما في قِوام مستقل عن الآخر.
يرينا آيةَ ذلك، لمحةٌ خاطفة لذاكرة المفهومين في معرفة الإنسان ذاتَه على أنه كائن واعٍ، وذاتٌ مدرِكة طبيعة وجودها، وشروط ذلك الوجود…ودورها في الوجود بما هو وجود…ومن منطلق الترابط بين المعنى والسياق، فإن التعريف سيكون نسقيا، غير أن لا ضَيْر ـ وفي خطوة إجرائية أولى ـ أن نَعمِد إلى اعتبارهما صنوين؛ استحسان تقريبهما يستدعي إلماحة ممهدة، عساها تعين على استبانة طبيعتهما النسقية.
المعنى:
أورد الزَّبيدي في تاجه: «عنى (بالقول كذا) يعني: (أراد) وقصد، قال الزمخشريُّ: ومنه المعنى، (ومَعْنَى الكلام، ومَعْنِيُّه)، بكسر النون مع تشديد الياء، (ومَعْناتُه، ومَعْنِيَّتُه: واحدٌ)، أي: فَحْواهُ ومَقْصِدُه، والاسم العَنَاء.»[1]وغَيْر خافٍ ما في هذا التعريف من عناية، وإبراز لقيمة الفحوى والمقصَد؛ وهما كلمتان ستنشأ منهما دوالَّ ومتتاليات من المفاهيم والمعاني؛ ستأخذ تَمَثُّلاتها في الحقول الفلسفية، واللسانية، مثلما غدت همَّ الدراسات الأدبية والنقدية.
لئن أقررنا ـ في مستهل هذا الحديث ـ أن المعنى عميق الدلالة على الوجود، فإن ذلك مُسوَّغ نَفْيِ صفة وجود الشيء بخُلُوِّه من المعنى؛ فأمر، أو شيء لا معنى له، هي مدلول القول بعدم تحقُّقه في الوجود؛ وهو وِفْق تعبير بعضهم: «جَوْهرٌ مُسْتَكِنٌّ في أحشاء الحياة، وسِرٌّ مُضمَرٌ في أعماق الوجود…وبإنعام النظر نجد أن العلم ـ بجميع ضروبه ـ بحْثٌ عن معاني الأشياء وحقائقها، وفَكٌّ لرموزها، ودلالاتها؛ وبناء الأنساق الفكرية، وتشييد النظريات العلمية، وما تستلزمه من عمليات فكرية: تَصَوُّرًا وتصديقا واستدلالا، وتجريدا وتصنيفا ومَقْوَلةً للعالم: كَيْفًا وكَمًّا وأَيْنًا…كُلُّ ذلك مادته الرئيسة: المعاني.»[2]
إذا كان مُنْتَهَى هذا الذي حاولنا هو تعظيمَ المعنى، وعِزَّ إدراكه؛ حتَّى استأهل أن يُستَرخَص في سبيله كلُّ غالٍ، فإن الإحاطة به ـ في بعض صورها ـ هي مدلول اللفظ أو مفهومه؛ وذلك «عَصِيٌّ على التَّحديد حتَّى وُصف بأنّه "زئبقيّ" و"مُراوغ" و"هُلاميّ" و"مضلِّل". فهل هو: ما في النَّفس؟ أم ما يشير إليه اللَّفظ في الخارج؟ أم السُّلوك المستدعَى بواسطة الْمُثِيرِ والاستجابة؟ أم الصُّورة الذهنيّة التي تستدعيها الصورة الصوتية؟ أم أن معنى اللفظ هو مجموع السياقات التي يُمكن أن يَرِدَ فيها؟»[3]
السياق:
أما السياق، فقد عرفه الزَّبيدي، مُبَيِّنًا أنه من قبيل الاستعمال المجازي، بقوله: «ومن المجاز: هو يسُوق الحديثَ أحْسَن سِيَاقٍ، وإليك يُسَاقُ الحديثُ، وكلام مَساقُه إلى كذا، وجئتك بالحديث على سَوْقِه، على سَرْدِه»[4]؛ بصلة من هذا التعريف، فإن السياق يصدق على:
ـ مجموع العلاقات والروابط ما بين الكلمة وجوارها، وما بين الجمل بعضها وبعض مشكلا ما يحدد، أو يوجه إلى ما تدل عليه مكونات العمل الأدبي، في وحداته الصغرى؛ بأنه القرينة المرجحة
ـ ما يكتنف النص من ظروف وملابسات مؤثرة فيه هو ومنتجه؛ حيث هو (النص) ينظر إليه على أنه وثيقة لها الدلالة الواضحة على جوانب الحياة، والأوضاع التي كانت قائمة؛ ومن دلالاته ـ على تلك وسواها ـ ما قد يكون باديا في أجزاء منه؛ ومنها ما قد لا يَتَبَدَّى للوهلة الأولى؛ ولكن يُتَوصَّل إليه عبر تحليل الوسائط؛ فإذا كان وضع الأديب وظروف إنتاج عمله قد تَمْثُل، في مستوى أو آخر من مستوياتها، فإن العلاقات التي تحكم المنتِج بالمنتَج لهم (المُخاطَب)، أو (المُتلقِّي)، هي من ذلك القبيل؛ ومثل ذلك الذائقة العامة، قوية الحضور في دوافع العمل، وفي مراعاته شروط القبول، والخضوع للتقاليد والمواضعات الفنية والأخلاقية.[5]
ما ينشأ عن تلك العلاقات، هو ما يُتلمَّس في مقولة كثيرة التعاطي في التراث النقدي: «لكل مقام مقال»، وهي عبارة ـ على إيجازها ـ توضح مدى عناية علماء العرب المتقدمين بالسياق؛ إذ أن لكل فعل كلامي هيئتَه، وظرفَه، وبيئتَه التي أُنتِج فيها؛ وذلك ما يَتضَمَّن مراعاةَ حالِ السامع، أو الُمتلقِّي، واعتبارَ هيئةِ الخطيب أو المتكلم، وانتقاءه ما يحقق بلاغة وجمال قوله؛ وكلُّها قد وضعت لها شروط، وروعيت لها مواصفات تعين على تحقيقها.
ينشأ عن علاقة التعاون هذه التي تحكم ما بين مُنتِج القول، وبين من يُساق إليه، أو يُكتَب له شِبْهُ عهد؛ به يراعي الكاتب أو المؤلِّف شروط القبول والاستحسان، توخيا للإفهام، وسعيا إلى التأثير، وتمكين الكلام من فِعْلِه في المتلقي.
بسبب من هذه الإلماحات يكون تَعَيُّن تحديد السبيل إلى مستويات تَمَثُّل المعنى في المبنى، أو مستويات الحمل في الدالِّ والمَدْلُول، وهو ما تعنيه دلالة اللفظ/ الوحدة الدلالية الصغرى؛ ولكن مع إقرار تدرُّج نُمُوِّ المَعْنَى؛ تكافُؤا مع اتَّساع الدالِّ، وترَتُّبا ـ تجاوزا لبعض صور ما تعنيه مقولة «كل زيادة في المبنى، تتبعها زيادة في المعنى»، غير أن التجاوز تجاوُز تَضَمُّنٍ وإضافة.
بفعل ما أقررنا، نحدد دوائر تحقُّق المعنى في حوامل ثلاثة، هي: اللفظ، و الجملة، والنص؛ ويمكن تحديد هذه الدوالّ، ببنية صغرى هي اللفظ، أو الكلمة المفردة؛ وبنية وسطى، هي التركيب أو الجملة؛ والبنية الكبرى/العامة، هي النص؛ أما اللفظ فيتحدد معناه بسياقه التركيبي؛ وكلاهما (الكلمة المفردة والجملة) يكون له معنى بالسياق العام الذي هو النص؛ وسياق النص/ مُحدِّد معناه منظومة، ذات أبعاد تاريخية واجتماعية وثقافية…وإذن، يكون مما منه بدٌّ، أنه يدخل في نسيج النص، علاوة على الخارج العام ذي الصلة به، ما يسمى طبيعة المُبدع، ووضعه الاجتماعي، وعالمه النفسي.
يُسْلمنا مثلُ هذا المَسعَى التقريبي إلى تَلمُّس ناظم فعله مكين؛ بتداخل عوامل شتى، تتضافر في قيام واقع، تتشابك في تكونيه كل الظواهر الناجمة عن وجود الإنسان وفاعلياته المتعددة، التي يصدق عليها في التعبير الخلدوني «طبائع العمران»، وتعنيها عبارة «دلالة الظواهر» عند اللسانيين، وموقف الفاعل الاجتماعي، حسب التعبير السوسيولوجي؛ وهو ما يسمح لنا بالقول: «إن البيئة الاقتصادية/ الاجتماعية، وأبعادها الثقافية، وجهان لشيء واحد، ولكنه يأخذ وحدانيته من حركيته؛ حيث الجانبان طرفا جدل مستمر»[6]
وتجسيدا لهذا المنظور، فإن النسيج المجتمعي، والبناء الثقافي، طرفا جدل؛ كل فاعل في الآخر، ومنفعل به؛ وذلكم خلاف تصورات، كانت لها السيادة حقبا طويلة؛ "فهناك منظور سكوني يرى أن اللغة مرآة عاكسة لأشياء المحيط؛ واللغة والمحيط في تفاعل مستمر، ونمو مطرد وتشعب أبدي. »[7] وغدا ـ بأثر من ذلك ـ النظر إلى ثقافة كل أمة ـ واللغة قوامها ـ أنها محدد قابليتها للتطوُّر؛ ذلك، لأن المعرفة ذات صلة بالمنظومات الرمزية؛ إذ الأسطورة واللغة والفن والعلم أدوات للمعرفة لبناء الموضوعات وتركيبها.
وبذا ـ أيضا ـ يكون العمل الأدبي ـ باختلاف أنواعه وأشكاله ـ أثرا من آثار الثقافة، وانعكاسا للونها السائد والمُمَكَّن له؛ ويَسُوغ النظر إلي الإنتاج على أنه إعادة توليف للواقع العياني، أو هو استشراف لواقع ممكن الوقوع والبناء؛ وتلكم هي الرؤية النسقية.
مثل هذا الفهم يُمِدُّنا بالقدرة على تفسير أصوات في ثقافتنا، وإنمائها إلى البناء الذهني والموروث السيمانتي الذي تتأبى على الانبتات عنه؛ وهو ما لا يسعفنا به الفهم السكوني، بنظرته أحادية العامل؛ فحين نقرأ في تاريخنا الأدبي أن من الشعراء أشداء مارقين على نظام القبيلة، شكلوا عصبة الصعاليك، لمجرد وضعهم الاقتصادي، ومنع حق الولاء بتعطيل الانتماء؛ فنغمط حقهم فيما سوى ذلك من رموز الوجود ومعانيه؛ ويستغلق علينا تعليل قول الشنفرى الأزدي:
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى***وفيها لمن خاف القلى مُتَعزَّلُ
أويُربكنا ـ إن لم نَعددْه منحولا ـ قول هذا الصعلوك الجافي شبيهُ الحيوان في غِلظته ووحشية خِلقتِه:
لقد أعجبتني لا سقوطا قناعها***إذا ما مَشَتْ ولا بذات تَلفُّتِ
كأنَّ لها في الأرْض نِسْيًا تَقُصُّه***على أَمِّها وإنْ تكلمْكَ تَبْلَتِ
ونلغي كون الانتماء إلى المنظومة القيمية، وما تعنيه من زاد رمزي هو ضمان الشرط الإنساني في الوجود؛ على أن الأهم أن ندرك أن مثل هذا النزوع إلى القيمة الروحية، وإشاعة الفضيلة بين الناس، له دلالة عميقة، هي: التهيؤ لقبول واستساغة أن تملأ الأرض عدلا، بعدما ملئت جورا واختلالا.
وبعد حين، نحظى ببصيرة ثاقبة، يمتعنا صاحبها بتفهم، ما يعمي عن رؤيته النظرة العجلى من موقع المباشرة، وتعطيل استحضار ذاكرة القوم، ومخيالهم الجمعي، ذانك المكونان اللذان لا بد أن يكونا الموئل في بعض السياقات، مراعاة لسنن العرب وطرائقهم في تقريب بعض المدركات الذهنية؛ فهذا أبو عبيدة معمر بن المثنى حين سئل، لما ذا يرد في القرآن تشبيه بمجهول؟ أو ليس هذا حضورا للامعقول؟ في قوله تعالى:}طلعها كأنه رؤوس الشياطين{ [8] ما كان منه إلى استعادة قول امرئ القيس:
أيَقْتُلني والمشْرفيُّ مُضاجِعِي***ومَسْنونةٌ زرْقٌ كأنْياب أَغْوالِ
وأخيرا، نخلص إلى أن الإقرار باعتماد المعنى على السياق، قد انتابته أطوار ومراحل من تطور الفكر اللساني والمناهج النقدية، زحزحه بعضها من مكانه، سوى أن تلك الزحزحة كان محلها السياق الخارجي؛ ولم يك قطُّ تنكرٌ للسياق عموما؛ وتلك هي المرحلة التي سادت فيها البنيوية؛ واحتفت أيما احتفاء بالنص؛ وقالت بموت الأديب أو القائل؛ ولا يخفي أنها كانت ردة فعل على المناهج السياقية (التاريخي، والاجتماعي، والنفسي)، تلك المناهج التي تصدرت المقاربات العلمية للأدب؛ على أنه لم تكد بدعة البنيوية تستأثر بحقل الدراسات الأدبية، حتى تنَكَّب طريقها ما يسمى «ما بعد البنيوية»، وفي العقدين الأخيرين بدأ النقد الثقافي يطل، ويأخذ طريقه إلى الاستئثار بالمنزع الحداثي؛ وذلك ما يفضي إلى إعادة إعظام شأن السياق، الذي لم يخلِّ ـ في يوم من الأيام على نحو كامل ـ الميدان لمنافس آخر.
[1] ـ تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، الكويت/ 1965م، مادة (عنى).
[2] د. محمد محمود أحمد المحجوب، رحلة المعنى في المعاجم العربية من (العين) إلى (معجم الدوحة التاريخي)، محاضرة عن معجم الدوحة التاريخي، 17 ابريل 2019.
[3] ـ محمد محمود أحمد المحجوب، المصدر السابق.
[4] ـ تاج العروس…، مصدر سابق، مادة (ساق).
[5] ـ دروس في المناهج السياقية، لطلاب الماستر، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية/ جامعة نواكشوط العصرية: محمد الأمين بن الناتي
[6] ـ دينامية النص، د. محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، ط1، 1987، الدار البيضاء/ المغرب، ص:68.
[7] ـ المرجع والصفحة السابقان.
[8] ـ الصافات، الآية: 65.