الدكتور امحمد صافي المستغانمي يكتب: في رحاب شنقيط

أحد, 05/05/2019 - 15:27

 

في رحاب شنقيط

منذ ترعرعت في كليّة اللغة العربيّة والآداب بجامعة وهران، وتدرّجت بين أعوامها الدّراسيّة في مرحلة اللّيسانس، تعلّمت – كما تعلّم أترابي – في درس اللسانيات أنّ اللغة ظاهرة اجتماعيّة يعبّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم على حدّ تعبير ابن جنّي.

     تعلّمتُ أنَّ اللغة تُكتَبُ وتُنطَقُ، وعلى قدر عُمق ثقافة المُتحدّث بها وعلمه بأساليبها وأسرارها، يزدادُ بيانُهُ جمالا وإشراقا، وعلى مقدار كثرة مطالعاته وتنوّع قراءاته، يترقّى في مدارج الإبانة والتّبيين، والفصاحة والإفصاح.

     وظلَّ هذا الفهمُ يَصحبُني في حلّي وتَرحالي، في شبابي وكهولتي، إلى أن يمّمت نحو شنقيط رَحلي، وأنختُ بها عنسي، فإذا بي أمام ثلّة من الكرام تسري العربيّة في دمائهم، وتجري في عروقهم. كنتُ أسمع قبل السفر إلى موريتانيا أنَّ أهلها قومٌ محافظون: يحافظون على التقاليد العربيّة الأصيلة. يلبس أهلها الثوب العربيّ التقليدي الموشّى يتدرّعون به من حرّ الصيف وقرّ الشتاء. فيهم دماثةُ خُلُق، وطيبُ نحيزة، وسلامةُ فطرة، وصفاءُ قريحة، ونُبلُ شيم، وطُهرُ خصال ورثوها كابرا عن كابر. ورثوها عن المسلمين الذين فتحوا ديارهم بالحبّ والإيمان والحُلُق الحسن.

     تشرّبت نفوسُ آبائهم وأجدادهم الأقدمين حُبَّ العربيّة. تعلّموها مع القرآن الكريم فأقامت بديارهم وضربت بجرانها في ترابهم. ساعدهم صفاءُ العيشة الصّحراويّة الهادئة المطمئنّة البعيدة عن صخب المدينة وغوغائها على الحفاظ على لغة الضاد نقيّةً صافيةً شفّافةً غضّةً طريّة. يخطبُ بها العالم الفقيه بفصاحة وبيان، ويتغنّى بها الشاعر المحبّ الولهان، ويلهجُ بها الصّبيّ مقتفيًّا آثارَ والديه فيُحسنُ الإبانةَ والتّبيين.

    

     صحيحٌ أنّي كنت على علم بهذا قبل سفري إلى بلاد شنقيط المباركة، ولكنَّ الذي راعني وراقني، وشدّني وأسرني وهزّني أنّي التقيتُ، على هامش لقاء علميّ تدريبيّ يندرجُ في إعداد المحرّرين المعجميّين المشاركين في مشروع المعجم التاريخي للغة العربيّة، قلت: الذي شدّني أنّ عددا كبيرا من الذين حضروا ذلك اللقاء، إن لم أقل كلّهم، كانوا شعراء فصحاء، يرتجلون الشْعر بداهةً. تجودُ قرائحهم بالأشعار الجميلة الأخّاذة السّاحرة في الدّقائق واللّحظات. يهتبلون الفرص للتّنفيس عمّا يغلي في مراجل صدورهم من شعر ساخن حارّ فيّاض. لا أكونُ مبالغا إذا قلت: إنّ بني شنقيط لا يتكلّمون اللغة، بل يتنفّسونها. يستنشقونها ويخرج الزّفيرُ أشعارا جميلةً ذات إيقاع موسيقيّ عذب شجيّ مؤثّر بليغ يتذوّقُهُ الذين يُحسنون اللغة ويعشقونها. 

 

..  لستُ في هذا القول مبالغا ولا مجاملا، وما كنت ممّن يُجاملُ على حساب الحقّ الأبلج الواضح الجليّ أحدا. تحدّثتُ معهم حديث الأخ مع إخوته حول بعض أساليب التّحرير المعجميّ وموجّهاته، وعرّجنا على نماذج من الأمثلة سقتها بين أيديهم على وجه التّمثيل والإيضاح، وما أنا بالذي يسوق اللغة إلى أصحابها، وإذا كان التّاجرُ الماهرُ الحاذقُ الخِرّيتُ العارفُ بمسالك التّجارة والرّبح والخُسران لا يستطيعُ أن يبيع التّمر في بلاد العراق التي تفيضُ مناكبها وواحاتها بكل أنواعه؛ فكذلك المتكلّم الفصيح مهما كان حاذقا بلسان العرب، مُتقنا لمعارفه اللغويّة والأدبيّة فإنه لا يستطيعُ، وما هو بقادر، أن يُروّجَ لبضاعته اللغويّة المُزجاة أمام أهل شنقيط الفصحاء وأبنائها الشعراء الأبْيِناء. قلت: تحدّثت أمامهم وفي جمعهم في الشأن الذي كنت أريد، وأثار ذلك اللقاء العلميّ مشاعر وأحاسيس، وإذا بقرائح عدد منهم تفيضُ شعرا مقفّى موزونا، وإذا بالبداهة تتحدّثُ، وإذا بالحناجر تعلو، وإذا بالأصابع ترتفع للمشاركة والمداخلة. الكلّ يريد أن يُدلي بدلوه، ويرغبُ أن يُشنّف الحاضرين بما جادت به قريحته، وسال به قلمه في تلك اللحظات القليلة الممتعة. 

    وتنافس المتحدّثون، وتناهز المتدخّلون، وتسابقوا في محراب أخذ الكلمة. هذا يُنشدُ على الطويل، وذاك يغرّد على الرّجز، وآخر امتطى الوافر الجميل، وتوالت الأشعار ترتفعُ، وتتابعت نشوةُ الشعر ترقص على الشفاه، ويهتزُّ لها الوِجدان، وعاش مُحبّو الشعر، وعشّاق القريض من الحاضرين في القاعة أحسن الأوقات بل أجملها وأمتعها، حتّى إنّ الدكتور العلامة الخليل النحوي – أطال الله عمره في خدمة العربيّة والدين – كان يطلب من المتحدّثين عدم الإطالة، ويدعوهم إلى إسقاط كلمات الشكر بل إلى تجاوز إنشاد الشعر إلى الأهم وهو المقترحات والأسئلة المتعلقة بالمعجم التاريخي.

     ولكنّه كان ينفخ في رماد، وجانبه الصواب – وهو المصحوب باليمن والفلاح والصواب دائما – أن يُسكتهم. وهل يستطيع أحدٌ أن يُسكت لسان الشعر إذا غنّى، وهل بِمُكنة أحد أن يمنع العواطف المتأثّرة والمشاعر المتأججة أن تسيل على ألسنة أصحابها؟

     لقد تعلّمت من هذه الرّحلة العلميّة دروسا وعبرا، ولكنّ الدرس الكبير الذي حفرته في ذاكرتي، وتشرّبته مُخيّلتي، وتجذّرت آثاره في بؤرة تفكيري هو أنّ الحفاظ على اللغة يحتاج إلى جهد ورؤية وقناعة وبيئة.

    يحتاج تعلّم اللغة العربيّة – كما هو الشّأن في تعلّم أيّ علم وأيّ لغة – إلى جهد جهيد وعمل جادّ رشيد وسلوك مهيع علميّ صحيح لغرس اللغة السليمة في نفوس أبنائنا وعقولهم؛ فليس تعلّمُ اللغات ضربًا من اللعب أو لونًا من ألوان التّرويح عن النّفس، بل لا بد على علماء الجيل، ولزامٌ على الآباء والأمّهات، وحتمٌ على المعلّمين والمعلّمات، وفرضٌ على حرّاس التربية والتعليم في بلادنا العربيّة أن يجهدوا وينصبوا ويستفرغوا الوسع في رسم خطط علميّة تعليميّة صحيحة وقويّة تنهضُ بتعليم اللغة العربيّة لأبناء هذا الجيل الذي تتخطّفُه أحابيلُ التّكنولوجيا من كل حدب وصوب، وتعصف به أعاصير التغريب والتمييع من شرق وغرب.

 

    ليس تعلّمُ اللغة نافلةً أو ضربا من التّرفيه، حتّى يُعنى الآباء والأمّهات والمنظّرون في التربية الحديثة بالمواد العلميّة ذات الطابع التقني والعملي مستسهلين أمر اللغة ادّعاء منهم أنّها سهلة ميسورةٌ، وبحكم نشأة الطالب في بيئة عربيّة فإنه سيسهل عليه تعلّمها بل إنّ تعلّمها تحصيل حاصل وضربةُ لازب.

.... هذا اللون من التّفكير الساذج سبّبَ لنا متاعب، وأردانا في مهالك. العربيّةُ تحتاج إلى بذل جهد ليس بالهيّن لتعلّم حروفها، والكيفيّة السليمة للنطق بها. يحتاج نحوُها وصرفُها عقلا منطقيّا، وفكرا ثاقبا ألمعيّا. تحتاج بلاغتها إلى ذاكرة قويّة وحافظة واسعة يُخزّنُ فيها المتعلّم أنماطا من الأساليب الجميلة، وضروبا من الأنساق التعبيرية الرائعة. يحتاج متعلّموها إلى التّفريق بين مترادفاتها وأضدادها، بين مشتقّات الجذر الواحد ومصادره، والتمييز بين دلالات أبنيتها الكثيرة.

 ... وإذا كان المشهور المعروف المتداول من أبنية العربيّة يربو على خمسمائة وزن وصيغة، تُرى ما السبيل إلى تعلّمها بله حفظها وإجادة التعبير بها؟ ومتى يتعلّمها أبناء مدارسنا؟

 ... من ناحية أخرى، أسلفت أنّ المحافظة على اللغة العربيّة تقتضي رؤيةً واضحة لدى كل الأسر والمدارس وأبناء المجتمع وساسته وقادته؛ إذ لا يستقيم الفرع، ولا يربو ولا ينمو على حب العربيّة وتشرّبها والشّغف بها، ولا يستوي على سوقه إذا كان القائمون على المجتمع وحرّاس التربيّة  فيه، والآباء والأمّهات خِلوًا من الرّؤية الواضحة والقناعة القويّة الرّاسخة لأجل تعليم اللغة السليمة والمحافظة عليها.

 

.... كيف يستقيم لسان الابن، وأبوه وأمّه يخاطبانه بالعامّيّة البعيدة عن كل فصيح؟ أم كيف يُفصحُ لسانُ النّاشئ فينا وأبواه يخاطبانه بلغة أجنبيّة لا علاقة لها بدينه وقومه ووطنه؟ أم كيف تستقيم ألسنة أبناء الجيل، وكلّ ما في المجتمع يدعو إلى التّغريب والعيش في فلك الممنوعات؟

     إنّ القائمين على قطاع التّربية والتعليم، وإنّ الآباء والأمّهات في المجتمعات العربيّة المعاصرة بحاجة إلى وقفة مراجعة شاملة. وقفة مع أنفسهم ليُدركوا ماذا يريدون؟ وقفة مع الله ليعرفوا إلى أي وجهة يتوجّهون ويُوجّهون أبناءهم وبناتهم؟  وقفة تحاوريّة وتشاوريّة مع الخُلّص من أبناء المجتمع، ويكون المحور الأساس الذي يدور في هذه الجلسات الحواريّة التشاوريّة: ماذا نريد حقّا لأبنائنا؟

 

   وأخيرا وليس آخرا، يحتاج غرسُ العربيّة في نفوس أبنائنا أن نُيسّر لهم العيش في بيئة سليمة صافية تُحافظُ على العربيّة، وتحرص على سلامة التّواصل فيها بلسان عربيّ مبين. تُحبّ العربيّة وتمجّد ذكراها، وترفع رايتها خفّاقة عالية. تُحفّزُ على تعلّمها ودراسة علومها وفنونها. تكافئ المبدعين بها. تعمل على تفتيق أكمام الإبداع في نفوس أبناء المجتمع. تحثّ على القراءة والمطالعة بالعربيّة. تشجّع على التّواصل والتّحاور في المحافل والمجامع باللغة السليمة الفصيحة. تكتب المقالات، وتشارك في النّدوات والمناظرات، وتقيم اللقاءات بالعربيّة السليمة.

     نريد أن يتشرّب الأبناء الاستماع إلى العربيّة، أن نغذّي عقولهم بألفاظها الجزلة والعذبة، وأن نروي غليلهم بأنساقها التعبيريّة الجميلة، وأشعارها الموزونة العذبة النديّة الشجيّة، حتّى يشبّ ناشئ الفتيان فينا وهو يُفصح ويبين، ويُعبّر عن حاجاته ومشاعره بلسان عربيّ فصيح. ألا متى يتحقّقُ هذا الرّجاء؟

    وأقول في نهاية هذه الأسطر حول بني شنقيط الذين أذاقوني مودّتَهم، وسكن فؤادي حبُّهم، وأُعجبتُ بمثقّفيهم ولغويّيهم أيّما إعجاب: هنيئا لكم هذه اللغة السليمة الفصيحة التي تتفيّأون ظلالها، وتتنسّمون عبيرها وأريجها. هنيئا لكم حُسن تربيتكم أبناءكم. إنّ العربيّة في دياركم بخير، وإنّ بشائر النّجاح والتألّق تتغشّاكم وتحفّ بكم؛ لأنّ العربيّة وعاء القرآن؛ فلا خشية على أبنائكم من عواصف التّغريب، ولا من أعاصير الإيديولوجيات التي تحاول أن تزعزع وأن تقتلع جذور الإسلام من هنا وهناك؛ فلا خوف على أبناء شنقيط من هذا كلّه ما دمتم وما دام أبناؤكم يتكلّمون ويُفصحون ويٍبينون بهذه اللغة العظيمة العصماء التي هي جسرٌ لفهم الوحي السماويّ؛ فحيثما ثبتت العربيّة وسكنت، وقرّت ورسُخت، تجذّرت معها دوحةُ الإسلام وطالت فروعها، وبسقت أفنانها، واستقام الدين القويم لا يريم ولا يبرح، ولا يزول ولا يتزحزح. 

 

     وكتبه امحمد صافي المستغانمي في الطائرة من الدار البيضاء إلى دبي في الخامس والعشرين من أبريل سنة ألفين وتسع عشرة.