الدكتور محمد ولد بو عليبه: [معوقات البحث العلمي في موريتانيا] محاضرة في صالون الولي محمذن ولد محمودن بابَّير التورس

أحد, 10/11/2020 - 11:15

القى الدكتور محمد ولد بو عليبه محاضرة بعنوان: معوقات البحث العلمي في موريتانيا  يوم 3 صفر 1442هـ 27 سبتمبر 2020م بحاضرة ابير التورس، وذلك  ضمن البرنامج الثقافي لصالون الولي محمذن ولد محمودن.

وقد نبه المحاضر في مستهل حديثه إلى أن الحضارة العربية الإسلامية كانت لها الريادة في تأسيس البحث العلمي مبرزا تجليات ذلك في علم الحديث وصرامة منهج العلماء في النقل والتوثيق.

كما تناول الإشعاع المعرفي الذي عرفته بلادنا في العهد الأميري، والذي كان يمكن أن يكون أساسا يبنى عليه ويطور البحث العلمي في الدولة الحديثة.

غير أن هذه الدولة الحديثة لم تكن غير مخرج من مخرجات الإدارة الاستعمارية ووارثة لأساليبها ومحققة لأهدافها التي يعرفها الجميع.

كما نبه إلى أن تخلف البحث العلمي في بلادنا لا يختلف عما هو عليه في جميع الوطن العربي مرجعا ذلك إلى قلة الاهتمام به من قبل المؤسسات الحكومية والاجتماعية. ويتجلى ذلك من خلال الإنفاق عليه في جميع البلدان العربية الذي لا يتجاوز 1.7 مليار دولار سنويا، وهو مبلغ يقل عما تنفقه جامعة واحدة مثل جامعة هارفارد؛ فعدم تمكن الباحثين من التفرغ للبحث العلمي في بلدانهم، أدى إلى تفريغ تلك البلدان من عقولها؛ حيث هاجر كثير من العقول العربية إلى الغرب وغيره من البلدان التي يمكن أن يجدوا فيها حياة كريمة.

وهذا هو نص المحاضرة:

 

<<لا أريد هنا أن أسترسل معكم في كثير من المنزلقات اللغوية وسأكتفي بالقول إن البحث لغويا مصدر (بَحَثَ) ومعناه : "تتبع، سأل، تحرى، تقصى، حاول، طلب " و بهذا يكون معنى البحث هو : "طلب وتقصي حقيقة من الحقائق أو أمر من الأمور، وهو يتطلب التنقيب والتفكير والتأمل؛ وصولاً إلى شيء يريد الباحث الوصول إليه".

باختصار شديد كان العرب سباقين إليه

فوضعوا الكثير من الحلول للمشاكل التي حلت بهم وكانوا سباقين إلي اكتشاف العلوم الحق؛ فهم مكتشفو الصفر مثلا: جربوا بأنفسكم القيام بعمليات حسابية دون الصفر.

 

ستركز هذه المداخلة على نقاط ثلاث هي:

 أولا

أتساءل في البداية عن هل وجد في تاريخ بلادنا بحث علمي لكي يكون للبحث العلمي في فترتنا المعاصرة أساس في الماضي.

ثم أتعرض في نقطة ثانية للبحث العلمي -- إن وجد -- منذ أن سيطر الاستعمار حتي اليوم لأنه منذ ذلك التاريخ حدث انعطاف ربما كانت عواقبه على البحث العلمي أساسية.

ثم في نقطة ثالثة وهي الخلاصة وهي وصف من عدة نقاط لمعوقات البحث العلمي في هذا الظرف من تاريخ بلادنا لتكون موضع نقاش من لدن الحاضرين لكي تعم الفائدة.

التراث العلمي في موريتانيا ما قبل الاستعمار أي في عهد النظم الأميرية

إن هذه الرقعة من العالم أي موريتانيا قد تميزت منذ القديم بحركة علمية عريقة تجسدت في التأليف أنتجت ثراثا هائلا لا يمكن معرفة بداياته بالتحديد إلا عند الدخول إلي المخزون الهائل من المخطوطات المنتشرة في هذه البلاد سواء داخل المدن التاريخية أو لدي المجموعات التي كانت بالأمس متنقلة واستقرت خلال الفترات الأخيرة. كما تميزت بكثير من الإبداعات الأخري، التي يمكن وصفها بالعلمية. تزامن كل ذلك مع نشأة مجتمع البيظان بعيد سيطرة المعقل عليها.

 وتتميز المخطوطات بأنها منتج علمي قامت به مجموعات مهنية (امتهنت العلم وظيفة وهذا مهم لأن تلك المجموعات تفرغت له كما يُفرغ الباحثون في العالم الآخر وفي مراكز البحث لنفس الغرض) عرفت هذه المجموعات المهنية في مجتمعنا التقليدي بالزوايا على مدى قرون من الزمن عبر هذه الصحراء كلها وداخل المدن: ولاتة تشيت تجكجة ودان وشنقيط أروان تنبكتو. وهذه الحركة العلمية التوثيقية التأليفية كانت قد سبقتها حركة اقتناء للكتب تمت عبر المسافرين الحجاج المارين بالمراكز الحضرية التي احتضنت الحضارة العربية مثل الشام ومصر مرورا بإفريقية: أي تونس وصولا إلي المغرب الأقصى ثم إلي بلاد الصحراء، أي رحلة الحج المعروفة، وغالبا ما يحمل هؤلاء الحجاج المسافرون معهم إضافة إلي الكتب تجربة العلماء هناك في الاستقصاء وفي عملية التأليف والبحث كما جلبوا من تلك الأصقاع مادة ظلت نادرة في هذه البلاد وهي الورق.

الورق الذي أعطى لتلك الحركة العلمية دفعا لا يستهان به، وكثيرا ما يستجلب من الشمال في الفترات الأولي من نهضة هذه البلاد العلمية أي القرون التي سبقت القرن الثاني عشر - الثامن عشر الميلادي حيث تشير بعض الوثائق إلى وجود هذه البضاعة داخلة في المبادلات التجارية مع الأوربيين.

ويظهر من خلال الوثائق كذلك ندرتها وأهميتها بالنسبة للمؤلفين يقول العلامة محمد اليدالي في كتابه الذهب الإبريز:

وأعني يا ذا الجليل عليه      وأعن من يعينني يا معين

بمداد أو مزبر أو بِدلك     للقراطيس إذ بذاك تلين.

وقد رسمت هذه المخطوطات العلمية بأنواع شتي من الخطوط وتفنن الناس في ضبطها. ويميزها الراسخون في معرفة المخطوطات؛ فمنها الخط الصحراوي والمغربي والمشرقي والسوداني إلخ وكل خط من هذه الخطوط له مميزاته التي تميزه ولكن الخط الذي طغي هو ما عرف عندنا محليا بـ"لكريدة" الذي هو مأخوذ من بعض هذه الخطوط لا كلها، وكان السلف يسميه محليا بـ"لكريدة" بالحسانية ولا يختلف اثنان حولها. أما الأرقام فكانوا يستخدمون رمز الغبار لضبط التواريخ وقد كتبت التواريخ كلها حتي بداية القرن العشرين بأرقام الغبار؛ ورمز الغبار يلتبس علي البعض مع الأرقام الهندية، ولكنه ليس أرقاما هندية وقد نظم أحد العارفين به قاعدته بهذه القطعة:

رمز الغبار فابدأن بالألف         ياء برد ثم حج منعطف

فالعين فالمنكوس فاله فالكتف من بعد مغطف له الواو ردف

فالكتب والعقود والأحكام الفقهية كلها مؤرخة بهذا الرمز إلا الفتاوي فمن النادر تأريخها وللعلماء في ذلك رأي.

كان علم الحديث من أهم العلوم التي تصدرت البحث العلمي العربي فقد حفظت نصوص الأحاديث ونقلت إلي السلف الصالح نقلا دقيقا يتميز فيه خطأ الرواية وصوابها وصحيحها من سقيمها وفق قواعد نقدية واضحة ودقيقة وهي قمة في النقد.

كانت الصرامة العلمية هي مذهب هؤلاء المؤلفين وديدنهم. فكانت للمكتوب حرمته،

 ومن النادر الحصول من بين الكتب والوثائق على كتاب أو وثيقة غير صحيحة لتشديد العلماء علي ضوابطها بدءا بورع كاتبها مثل الشروط التي عددوها والتي يجب أن تتوفر فيمن يقوم بالتوثيق والضبط.

قال مالك رحمه الله  تعالى لا يكتب الوثيقة بين الناس إلا عارف بها عدل فى نفسه مأمون لقوله  تعالى: (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ) وفي الغرناطية يذكر أحمد الصغير التشيتي: "يعتبر في الموثق عشر خصال متى عُرى عن واحدة منها لم يَجُزْ أن يكتبها، وهي: أن يكون مسلما، عاقلا، مجتنبا للمعاصي، سميعا، بصيرا، متكلما، يقظا، عالما بفقه الوثائق، سالما من اللحن، وأن تصدر عنه بخط بين يقرأ بسرعة وسهولة، وبألفاظ بينة غير محتملة ولا مجهولة. قال ابن بري: زاد غيره أن يكون عالما بالترسل لأنها صناعة إنشاء. وعن التوثيق قال: الجزيري: في مدار التوثيق على معرفة الأحكام والفهم للمعاني، وينبغي أن يكتب (يعني الموثق) بخط وسط لا دقيق خاف ولا غليظ جاف وليتوسط في السطور بين التوسيع والتضييق وليكتب بعبارة واضحة صحيحة تفهمها العامة ولا تزدريها الخاصة، وينبغي أن لا تختلف أقلامه وخطوطه وأوضاعه خوفا من التزوير، وأن يعيد النظر فيها لتفقُّد ألفاظها، وإذا سافر إلى جهة أن لا يتصدى للكتابة إلا بعد أن يعرف اصطلاحهم".

 وقد نهج أسلافنا في التوثيق نهج الشريعة المحمدية فكانوا يحرصون علي عدالة كُتابها والشهود عليها إذ لا يشهد علي الوثيقة إلا من توفرت فيه الشروط يقول ابن العربي: "يكتب الرجل اسمه واسم أبيه وجده حتى ينتهي إلى جد يقع به التعريف ويرتفع الاشتراك الموجب للإشكال ولا يحتاج إلى ذكر النسب والبلد إلا لرفع الإشكال عند توقع الاشتراك" انتهي. وقد أفادتنا نحن المشتغلين بالبحث هذه الشروط في معرفة التاريخ والأنساب وهي مصادر نادرة وصادقة حول التحولات الاجتماعية في هذه الرقعة من العالم. وقد صبروا على شظف العيش وصعوبته لينالوا شرف العلم

ويقول محمد بن المهاجر:

يظلون تحت الشمس كالظل عندهم
 

وتحت ليال الصر، أكسية النعل
 

ومأواهم وهنا عريش كأنه
 

كناس ظباء في جذوع من الأثل
 

ويقول طالب آخر :

تلاميذ شتي ألف الدهر بينهم
 

لهم همم قصوى أجل من الدر
 

يبيتون لا كِنٌّ لديهم سوي الهوا
 

ولا من سرير غير أرمدة غبر
 

في قصيدته المشهرة التي يمدح فيها ابن بون آل شنان من أمراء يحيى بن عثمان يتحدث مفتخرا بقيم زوايا أرض البيظان الذين اتخذوا ظهور العيس مدرسة قائلا.

ونحن ركب من الأشراف منتظم
 

أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا
 

قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة
 

بها نبين دين الله تبيانا
 

 

أما الفترة الحديثة فقد تميز التعليم والبحث العلمي مع الاستعمار بتطور البنيات الاجتماعية في بلادنا وقد تأثرت تلك البنيات به مما تسبب في تكريس انهيار البنيات العلمية التقليدية ومع مرور الزمن انهارت تلك البنيات التي كانت تنتج البحث العلمي.

ومن أهم الدراسات التي أعدت حول هذا الموضوع كتاب الباحث دي شاسيه الذي ترجمناه وقد حمل عنوان: موريتانيا من 1905 إلى 1975 قبل سنين. في هذا الكتاب يحلل دي شاسي الأسباب العميقة لتخلف المجتمعات قبل الرأسمالية في إفريقيا الغربية التي كانت تحت هيمنة الاستعمار الفرنسي (ويأخذ موريتانيا نموذجا لها). وقد مُنِحت مكانةٌ "زائدةٌ " حسب تعبير الكاتب للتعليم " الذي ينظر إليه عادة على أنه مؤسسة لإعادة الإنتاج وينظر إليه هنا بامتياز كمؤسسة للترقية الاجتماعية. يجد القارئ في هذا الكتاب تحليلا مفصلا لتطور النظام التربوي منذ بداية الاستعمار حتى سنة 1975 كما سيجد تحليلا للسياسات المختلفة التي اعتمدت في هذا المجال من طرف المستعمر ومن طرف قادة الدولة بعد ذلك أو الدولة "الاستعمارية الجديدة" حسب تعبير الكاتب.

يعرض دي شاسي، اعتمادا على مراجع ووثائق غنية بالمعلومات السياسةَ الاستعمارية اتجاه اللغة العربية والتعليم التقليدي بصفة عامة الذي أنتج الحركة العلمية عبر تاريخنا كما يعرض الجهود التي قام كسياسة الإدماج والاشتراك اللتين تندرجان في نفس السياق. ذلك ما يسميه الكاتب التأثير الإيديولوجي للاستعمار والذي سوف يكون له بدوره تأثير على وظيفة البنيات التقليدية وبالتالي على الحياة السياسية للمجتمع.

وقد اعتمد المستعمر من أجل أن يتغلغل في هذه المجتمعات حسب دي شاسيه سياسة انتقائية في التعليم: يقول كارد Carde "لنعتبر التعليم شيئا ثمينا لا يوزع إلا بتبصر وحكمة، ولنقصر فوائده على مستفيدين ذوي أهلية لذلك. لنختر تلاميذنا أولا من بين أبناء الشيوخ والأعيان. إن المجتمع المحلي متراتب بشكل كبير والطبقات الاجتماعية تحددها الوراثة والتقاليد بشكل واضح. وسلطتنا تعتمد علي هذه الطبقات لإدارة هذا البلد" (تعميم كادر Carde  1924.).

انطلاقا إذن من الطبقة القيادية التقليدية ومن خلال المدارس استطاع المستعمر أن يكوّن معاونيه أي حلفاءه وخلفاءه، إن هذه المدارس "تُعِدُّ على المدى البعيد شيئا ما شيوخا وموظفين يشاركون في سلطتنا وينبغي أن يكونوا أعوانا مؤتمنين إنها (المدارس) تصون أو تشكل ارستوقراطية بالولادة بالفكر والسلوك". ج. هاردي (G. Hardy)  "نحن بحاجة إلى سكان محليين ينتمون إلى الأوساط المحلية من خلال أصولهم وينتمون إلى الوسط الأوروبي من خلال تربيتهم" دلافوس. (Delafosse)..

غير أن هذه الطبقة القيادية الحليفة للمستعمر والضامنة لمصالحه ليست مع ذلك منحدرة بشكل استثنائي من الأرستقراطية القيادية التقليدية. إنها تتشكل أيضا من العمال التابعين للإدارة الاستعمارية "سوف نرى أنه خلافا لما يبدو أنه حصل في أماكن أخرى، أن الإدارة سعت جاهدة إلى اكتتاب وكلائها خاصة لدى البيظان من العائلات التقليدية للشيوخ والأعيان وقد سهرت بشكل خاص على تربيتهم الإيديولوجية. لقد تم تعزيز دور الوسيط الذي تكفله لهم وظائفهم. غير أن ذلك كان بالنسبة لبعض العائلات الأخرى مناسبة للوصول إلى الرئاسة أو إلى منزلة الأعيان على حساب عائلات أخرى كان لها أن ترثها بفعل العادات التقليدية. ذلك لأن وسطاء السلطة الاستعمارية الذين هم أكثر تواضعا ليسوا أقل أهمية شريطة أن يكونوا أكثر إخلاصا وأكثر معلومات (استخبارية) دي شاسي.

لم تقم خلال الفترة الاستعمارية مؤسسات للتعليم العالي من شأنها ممارسة البحث العلمي، ولم تظهر أعمال علمية إلا ما كان من بقيا امتداد النظام المحضري والذي ظلت جيوب منه تمتهن الإنتاج العلمي على الطريقة التقليدية ولكن أين نحن من المجاميع الفقهية وحركة التأليف في الفوائد في مختلف المجالات مع سلفنا الصالح، مجموع أنبوي والقصري، وغيرهم كثير.

أما الفترة الحديثة جدا أي بعد سنة 1960، فقد اختارت بلادنا منذ استقلالها نهج المحاصة والتوازنات القبلية والفئوية في السياسة التعليمية؛ وبذلك أصبحت مؤسسات التعليم من نصيب قبيلة أو جهة أو شريحة؛ وهي بذلك قد قضت على كل توجه من شأنه أن يثمن البحث العلمي وقد وصف أحد الباحثين الغربيين بلادنا ذات مرة قائلا في حديثه عن القصور في مجال البحث العلمي في هذا البلد وهو فليب مرشزنه الذي ترجمنا كتابه القبائل والإثنيات في موريتانيا : "أما الأعمال المنجزة في مؤسسات التعليم العالي، وهي بالأساس رسائل تخرج فكثيرا ما لا تشفي غليل القارئ، وفيما عدا استثناءات نادرة يبقى الصمت مطبقا حول كل ما يمت بصلة لواقع الحياة الاجتماعية، لأن تناول  القضايا السياسية شبه معدوم. وباستثناء حالات معزولة ومتميزة لقلَّتها، فإن الباحثين الموريتانيين معروفون بعدم الإنتاج لأن مهنة البحث لا تجلب لصاحبها التقدير ولا التثمين. وعليه، فإن الحرص على متابعة مسيرة وظيفية هامة يفرض على الباحثين انتهاج حياد مسالم ليس إزاء السلطات فحسب، وإنما أيضا إزاء كل شخصية نافذة قد يعرضها البحث للأضواء والنقد. فالسمعة قيمة أساسية في هذا المجتمع الذي فيه كل الناس يعرف بعضهم بعضا. والكتابة عن الآخر ليست عملا سهلا، خاصة أن الإحساس بالحاجة إلى الكتابة  يبقى ضعيفا، بالنظر إلى نقاش الصالونات وإذاعات الرصيف التي تعوض ذلك بجدارة." 

لقد درس مرشزنه نشوء وتطور دولة موريتانيا بمفهومها الحديث حيث كانت بصمات المستعمر واضحة من خلال النظام الإداري الموروث عنه، كما يبين كيف رسخت الأجيال الموريتانية المتعاقبة هذا النظام وطبعته بطابعها الخاص، وكيف مارست هذه الأجيال العمل السياسي انطلاقا من قيم قبلية وجهوية وفئوية ظلت حاضرة لدي النخبة السياسية. وقد تمسكت الأنظمة السياسية المتلاحقة بهذه القيم والممارسات حيث جعلت من المحاصّة والتوازنات القبلية والفئوية أداة "استقرار" للأنظمة بدل اعتماد آليات وأساليب في الحكم تفضي إلي استقرار أساسه التنمية والعدالة. وتبقي المحاصّة وهذا رأيي في نهاية المطاف- وإن كانت حققت وستحقق لبعض الحكام البقاء فترة من عمر الدولة، ولبعض المواطنين ممن ساحوا في نعمها وزراء أو مدراء إلخ ..–تبقي لغما يهدد وجود الدولة ووحدة شعبها، وعائقا في وجه التنمية. فالمحاصّة تغيب الأساليب الكفيلة ببناء دولة حديثة تختفي فيها أو تميل إلي الاختفاء تلك التراتبيات الاجتماعية التي غيبت شرائح عريضة من المجتمع عن ممارسة حقها في المواطنة الكاملة كما غيبت الكفاءة وقيم النزاهة في تسيير الشأن العام. وقد نمت في ظل هذه المحاصّة منذ عهد الاستعمار أبشع المظاهر المعيقة للتنمية كالرشوة والزبونية والمحسوبية، فلم تعد الوظائف السامية ومراكز القرار ذات التأثير علي مصير الدولة إلا قطعا من الكعك يوزعها الحاكم وفق مبدأ مقايضة الولاء بالسلطة والنفوذ (إذ لا عبرة بالكفاءة). وقد نجمت عن المحاصّة السياسية محاصّة في الاقتصاد والثروة بشكل عام. هذا التوجه هو الذي عصف بالبحث العلمي إذ أسندت أمور التعليم والثقافة إلي غير أهلها.

إن تهميش الباحثين واستقواء من لا شأن لهم بالمعرفة بالدولة وولوجهم إلي المناصب العليا هو الذي طبع المراحل السياسية للبلد خلال العقود السابقة. وقد لعبت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية دورا كبيرا في الاستعاضة عن البحث العلمي الجاد بالمعلومات الصحفية الضعيفة وكرست سلطة فئة من أنصاف المثقفين وقامت تلك الفئة بتوجيه نظامنا التعليمي وسياساتنا الثقافية. فلم يبق للباحث الذي يحمل مسؤولية إنارة شعبه إلا الانزواء، كما أن الأحكام السياسية المتعاقبة بمواصلتها لسياسات متخلفة وبائدة كسياسة المحاصة -التي هي الداء العضال للمجتمعات التائقة إلي النمو-قد ابتعدت كثيرا عن معايير البحث الجوهري la recherche fondamentale  الذي اعتمدته الشعوب المتطورة كأساس لنموها. وهكذا تمر العقود على حكومات عاجزة انشغلت عبر تاريخها بكل أنواع الوعود الفارغة كالوعود بالتعليم الناجع والقضاء علي الفقر "والأمية فى سنة كذا" وغيرها مستندة فى ذلك على القبلية والإثنية.

يكشف كتاب مارشزين بلغة البحث العلمي عن أن  الأحكام  السياسية ظلت تسخر من مواطنيها لأنها أدركت أن البحث الجوهري الذي يسهم في بناء الذاكرة القوية معدوم ولذا فإنها لا تستحي -كلما جاء نظام جديد-من أن تعمد إلي تكرار نفس أخطاء الماضي والمتعلقة بالوعود ببناء الأمة وبتعليم قوي، مطمئنة أن الطبقة السياسية التي خلقتها الأنظمة قبلها من سياسيين ورجال أعمال وسماسرة ستضمن لها الولاء كما حدث لأنظمة قبلها.  وفي هذا الإطار يتنزل بحث مرشزنن والذي يمكن أن يستخلص منه أن الممارسة السياسية لم تخرج فى يوم من الأيام عن نطاق القبيلة والجهة والإثنية، وأن الطبقة  السياسية في هذا البلد لم تنجح في بناء مجتمع متجانس لأنها غيبت البحث العلمي المفضي إلي الوعي والوعي بالتاريخ -لا التاريخ المشوه-التاريخ  الذي يخفف من الهمجية التي قد تبرز في مجتمعات غير متجانسة.

وما دامت الأنظمة المتعاقبة على البلاد لا تهتم إلا بمصالح أفرادها الشخصية مقتسمة الوظائف الدافعة لعجلة التنمية بين زبنائها وضاربة عرض الحائط بالكفاءة فإنها بذلك ستقضي علي كل أمل في قيام البحث العلمي الذي من شأنه أن يحل المعضلات التي تعترض طريق النمو.

هذا الواقع تعاني منه معظم البلاد العربية حيث لا زال البحث العلمي متخلفا في البلاد العربية والإحصائيات واضحة في هذا المجال وتقارير المنظمات الدولية تفيد بذلك، فالصرف على البحث العلمي في البلاد العربية لا يتجاوز مليار و700 مليون دولار سنويا، وهو مبلغ "يعادل ما تصرفه جامعة واحدة مثل هارفارد أو جونز هوبكنز في الولايات المتحدة".

أنظروا تلك المعلومات التي يؤسف لها على الأنترنت.

 تسبب عدم الاهتمام بالبحث العلمي في هجرة الباحثين العرب إلي العالم الأروبي والولايات المتحدة.

 

أما عندنا فتكمن عوائقه في

ضعف التأهيل

عجز الباحثين عن التفرغ للبحث بسبب الإكراهات

إسناد وزارات التعليم والثقافة إلي غير أهلها (كالسياسين الذين يلبسون في الغالب قناع أساتذة الجامعات وهم منهم برآء مما تسبب في فساد منظومة التعليم وتحول معظم الشعب وللأسف إلي عوام وإلي سماسرة "تبتابة" لا يعرفون إلا الغش والخداع.>>